السبت، 13 ديسمبر 2014

طفلٌ يحاور ويتقبل الآخر

 

 تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :١٤ ديسمبر ٢٠١٤

بقلم: الدكتور زكريا خنجي

أثناء دراستي الدكتوراه، وفي أثناء واحدة من تلك المحاضرات الممتعة الطويلة، وفي الحقيقة لا أعرف ماذا كان الموضوع، ولكن طرح الدكتور المحاضر هذه القصة، يقول إنه قرأ ذات يوم هذه القصة عن مدير مدرسة، قال: «كان لدينا طالب يزعج الطلبة كثيرًا، ولا يكاد يمر يوم إلا وقد قام بضرب أحد زملائه وسرقة أدواتهم الخاصة وربما وجباتهم الصباحية، وإزعاج شديد لف المدرسة كلها، حتى بلغ الأمر أن أولياء أمور الطلبة الآخرين بدأوا يضجرون من الموضوع، وبدأت تتكدس الشكاوى على هذا الطالب، ولم تكن تلك الشكاوى شكاوى أولياء الأمور فحسب وإنما بلغ الأمر أن المدرسين ضجروا منه وأصبحوا يرفضون دخول الطالب إلى حصصهم الدراسية.
أمامي مشكلة، فما كان مني إلا أن أتصلت بولي أمر الطالب -وهو رجل ذو منصب كبير في الدولة- وطلبت منه الحضور.
وبالفعل في اليوم التالي أتى ولي أمر الطالب، وسمع الموضوع من غير أن يقاطعني، وقلت في نفسي «فعلاً إن الأب مؤدب، كيف يخرج هذا الولد المشاغب من صلب هذا الرجل»، وبعد أن انتهيت من سرد الموضوع والمشكلات التي يسببها ابنه، قال لي: سأهتم أنا بالموضوع، ثم غادر.
يقول المدير: وخلال الأسبوع التالي بدأت أراقب الطالب مراقبة دقيقة، وكلفت عددا من المدرسين -أيضًا- بمراقبته وذلك تحسبًا لأي تغيير في سلوكياته، ولكن ظل الموضوع كما كان، لم يتغير الطالب وكأن الموضوع لم يكن، قلنا ربما التأثيرات تظهر بعد فترة، لذلك استمررنا نراقب الطالب مدة شهر، ولم يحدث أي شيء، ظل الطالب كما هو لا بل ازداد قساوة واستهتارا وازعاجا.
فقلت في نفسي «ماذا أفعل الآن؟ هل أطلب ولي أمر، أم ماذا أفعل؟» احترت، كيف يمكن حل هذه المشكلة؟ وكانت لدي الرغبة الشديدة في الجلوس مع الطالب وسماعه وهو يتحدث ويبرر هذه السلوكيات، ولكن كيف؟ ربما يزيده ذلك عنادًا.
يقول المدير: وأنا في هذا الوضع، سمعت أن الطالب أصيب بالزائدة الدودية وأجريت له عملية جراحية، وهو لم يحضر إلى المدرسة منذ أيام، فقلت في نفسي «فرصة سانحة لزيارته في المستشفى»، وبالفعل؛ أخذت معي باقة ورد وهدية للطالب وذهبت لزيارته في المستشفى، وجلست هناك معه ومع والده، ذلك الرجل المؤدب جدًا، ثم غادرت متمنيًا له السلامة.
وبعد أيام عاد إلى المدرسة وهو بالكاد يمشي ويتحرك، وبعد عدة أيام طلبته في غرفتي، وعندما حضر جلست معه وقدمت له بعض الحلوى، وبدأت بالتدريج أتحدث معه في سلوكياته المزعجة وغير المقبولة من زملائه الطلاب ومن المدرسين، عندئذ بكى الطالب وقال بنوع من البراءة «إن والدي يقول لي ولإخوتي دائمًا إن الناس والبشر مثل الزنبرك، كلما دعست عليهم برجلك فإنهم يبقون تحت رجلك لا يتحركون ويطلبون رضاك، أما إن حركت رجلك فإنهم سيقفزون أمامك وربما يزعجونك، فلا تتركوا لهم الفرصة أبدًا للقفز والتحرك، اجعلوهم دائمًا تحت أرجلكم» وانتهت الحكاية.
هذا الأب - وربما العديد من الآباء - خلق في نفس هذا الطفل الرغبة في استعباد الناس، وعدم قبولهم، ونمى في نفسه أنه أفضلهم وأنه لا يمكن أن يتساوى مع البشر، لذلك تحول سلوك هذا الطالب في المدرسة إلى سلوك شاذ غير مقبول.
إن قبول الآخر والتواصل معه أمر وسلوك الطبيعي، فلا يمكننا أن نعيش ونحيط أنفسنا بكبسولة لنمنع وصول الناس إلينا، فقد خلق الله سبحانه وتعالى سيدنا آدم وخلق معه من يؤنسه وهي أمنا حواء، وذلك لأن الكبسولة التي نصنعها لأنفسنا تمنع عنا الهواء فنختنق ونموت.
والطفل من طبعه أنه عنيد وأناني، ويحب نفسه، ولا يرغب في أن يشاركه أحد سواء في ألعابه أو أي شيء من ممتلكاته، وحتى أفكاره تراه يريد أن يفرضها على الآخرين عندما يلعب معهم، فالذكر يريد أن يقوم هو بدور البطل الذي يقضي على كل الأشرار وهو الذي ينتصر في النهاية، والبنت تريد أن تكون هي الجميلة وهي المرغوبة وهي الثرية وهي كل شيء.
وهذا أمر طبيعي لا يدعو إلى الخوف، وإنما المهم هو كيف نتعامل مع هذه السلوكيات بالكثير من الحذر، وكيف ننمي في أبنائنا تقبل الآخر وإن لم يكن يحبه، وكيف يمكن أن يتحاور مع تلك الأطراف وكيف يمكن أن يتفاهم معهم، حتى يعيش هو أولاً بنفس طيبة وراضية، ومن ثمة يمكننا أن ننشئ جيلا مسالما يعيش في مجتمع هادئ متماسك ينشئ حضارة مستدامة.


1- في البداية – ودائمًا - نبدأ من الوالدين والمجتمع الصغير الذي يحيط بالصغير، هذا المجتمع يجب أن يتبنى منهجية الحوار في تنظيم حياته، وإن اختلفت الآراء، وتعددت الأفكار، يجب أن تبنى تلك الأسرة على هذا المفهوم، فلا يفرض الأب أو الأخ الأكبر آراءه على هذا المجتمع الصغير، حتى في أصغر الأمور، فالجميع يمكن أن يبدي رأيه.


2- لا تقارن الصغير بزملائه أو أقرانه أبدًا، فهو إنسان قائم بذاته، له شخصيته الخاصة، وإنما حاول أن تنمي شخصيته هو، أيًا ما كانت تلك الشخصية، وذلك حتى لا ينمو وهو يعتقد أنه أفضل من الجميع ولا أقل منهم.


3- شاركه معك في اتخاذ بعض القرارات التي تمس المنزل وأفراد المنزل، وإن لم يكن له رأي يمكن أن يجالسكم كأفراد وأنتم تتناقشون في موضوع معين، دعه يشاهدك وأنت تحاور أخوته وأفراد الأسرة، ليعيش ويتعايش هذه الأجواء، وإن لم يرغب في الجلوس معكم حاول أن تفهمه أنها جلسة عائلية ولا تعقد إلا بوجود الجميع.


4- ويفضل أن تكون للأسرة جلسة عائلية - أسبوعية مثلاً - لمناقشة الأمور المتعلقة بالأسرة وأفراد الأسرة، إلا أن هذا لا يمنع أبدًا أن تكون بينك وبين أفراد الأسرة جلسات خاصة لمناقشة بعض الأمور الخاصة التي لا يرغبون في أن يطلع عليها أحد سواك.


5- لا يمنع أن تشتري للطفل الألعاب الإلكترونية أو الفردية، إلا أنه يجب أن يقتني بعض الألعاب التي لا يمكن اللعب بها إلا بصورة جماعية، فاللعب في الألعاب الفردية وخاصة الألعاب الإلكترونية فترات طويلة يولد عنده حب التقوقع والفردية.


6- يفضل أن يتم تسجيل الطفل في الأندية والمراكز العلمية حتى يشترك مع الآخرين في إنجاز بعض الأعمال والأنشطة الجماعية.


7- امنح الطفل بعض الصلاحيات ثم تنحَ جانبًا، وهذا لا ينطبق على المنزل فحسب وإنما حتى في المدرسة والمراكز التعليمية، نعم فوض الطفل القيام ببعض الأعمال، واجعله يعمل مرة كرئيس فريق ومرة أخرى كعضو في فريق، ثم راقبه من بعيد، وراقب سلوكياته وعمله، وحاول أن تدرس كيف يتصرف أثناء عمله كرئيس للفريق وكذلك أثناء كونه عضوا في الفريق، عندئذ يمكننا أن نعرف مدى تقبله للآخرين ومتى ينفر منهم، وفي أي حال من الأحوال لا تعنفه وإنما حاول أن تحاوره وتوضح له ماذا يعني فريق العمل، وكيف يكون جزءا من هذا الفريق.


8- وأنت - كمعلم أو كرب أسرة - لا تنس أبدًا التحفيز والتشجيع، سواء بالكلمة الطيبة أو ببعض المكافآت المادية التي يمكن أن تمنح لأفضل طفل يتعاون مع الآخرين، لأفضل طفل يصغي للآخرين، لأفضل طفل يناقش ويتحاور مع الآخرين، وكذلك يمكن أن تمنح تلك المكافآت للذين يحاولون النمو والتقدم في الانخراط في الفريق.. وهكذا.


9- يجب أن يستشعر الطفل ويتعايش مع مبدأ أن العمل بروح الفريق والتعاون وتقبل الآخرين هو مبدأ إسلامي وإنساني، فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يد الله مع الجماعة» رواه البخاري، وقال في الآية 2 من سورة المائدة (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).


10- يمكن لوزارة التربية والتعليم أن تخصص بالإضافة إلى الجوائز للمتفوقين دراسيًا ومتفوقين أخلاقيًا وما إلى ذلك أن تخصص جوائز ومكافآت لأفضل فريق عامل في المدرسة، أو لأفضل جماعة طلابية، ومثل هذه الجوائز تمنح للفريق كله، وتوضع أسماءهم في لوحات الشرف ويكافأون في الطابور الصباحي وما إلى ذلك.


ونحن هنا عندما نتكلم عن ذلك فإننا لا نعتقد بسهولة هذا الموضوع، ولكن الجزء الأكبر من العبء يقع على ولي الأمر والمعلم، فباستثناء مسئولياتهم كمشرفين للفرق، فإنه سيكون لدورهم كمشرفين للفريق التأثير في شخصيات الأفراد، وذلك لأن تأثيرهم يفوق تأثير أي شخص آخر قابلوه في حياتهم، ويا لها من مسئولية، لذلك عليهم أن يتعاملوا مع الأمر بجدية، وهم بذلك يكونون قدوة لهؤلاء الأطفال، فيمكن تشبيه الصغار بقطعة من الإسفنج فإنها تمتص كل ما تراه.

الخلاصة: هذه العملية ليست من السهولة بمكان إلا أنها ليست مستحيلة، لذلك إن كنا نسعى لمجتمع منتج مستدام فعلينا أن نفكر في أفراده.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق