السبت، 29 نوفمبر 2014

طفلٌ يفكر

 

 تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :٣٠ نوفمبر ٢٠١٤

بقلم: د. زكريا خنجي

عملية التفكير لدى الإنسان لا تحدث بصورة اعتباطية أو بصورة وقتيه أو ساذجة، وإنما هي من المرجح تربية طويلة المدى تبدأ منذ لحظات الطفولة المبكرة، لتكسب الإنسان إنسانيته، ويتميز بها على أقرانه من المخلوقات الأخرى، وذلك لأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يفكر أما بقية الكائنات فهي تعيش على فطرتها وعلى ما جبلها الله عليه، لذلك نعتقد أنه كلما ارتقى الإنسان في قدرته على التفكير ابتعد كثيرًا عن البهيمية التي تعيش فيها بقية الكائنات الحية.
والتفكير – كما تشير العديد من التعريفات – أنها عملية ذهنية، يتفاعل فيها الإدراك الحسي مع الخبرة والذكاء لتحقيق هدف ما، ويحصل بدوافع وفي غياب الموانع.
فأما الإدراك الحسي فهو الإحساس بالواقع والانتباه إليه، وأما الخبرة فهي ما اكتسبه الإنسان من معلومات عن الواقع، ومعايشته له، وما اكتسبه من أدوات التفكير وأساليبه، فيقوم بتنظيمها وتسجيلها، وتخزينها، وبالتالي يقوم بدمجها في مخزونه المعرفي، ويعيد استخدامها بطريقة أو بأخرى عندما يحتاج إليها، وأما الذكاء فهو عبارة عن القدرات الذهنية الأساسية التي يتمتع بها الناس بدرجات متفاوتة. ويعتقد أن التفكير يحتاج إلى دافع يدفع الإنسان إلى ممارسته، وكذلك لابد من إزالة العقبات التي تصده وتجنب الوقوع في أخطائه بنفسية مؤهلة ومهيأة للقيام به.
وإن كان التفكير أمر مألوف لدى الناس لأن الكثير منهم يمارسه، إلا أنه من أكثر المفاهيم غموضًا وأشدِّها استعصاءً على التعريف، ولعلَّ مردَّ ذلك إلى أن التفكير لا يقتصر أمرُه على مجرد فهم الآلية التي يحصل بها، بل هو عملية معقدة متعددة الخطوات، تتداخل فيها عوامل كثيرة تتأثر بها وتؤثر فيها، فهو نشاط يحصل في الدماغ بعد الإحساس بواقع معين، مما يؤدي إلى تفاعلٍ ذهني ما بين قدُرات الذكاء وهذا الإحساس والخبرات الموجودة لدى الشخص المفكر، ويحصل ذلك بناءً على دافع لتحقيق هدف معين بعيدًا عن تأثير المعوقات.
وربما من أهم أهداف التفكير لدى الإنسان، هو: الفهم والاستيعاب، واتخاذ القرار، والتخطيط، وحل المشكلات، والحكم على الأشياء، والإحساس بالبهجة والاستمتاع، والتخيل، والانغماس في أحلام اليقظة.
وهذه الأهداف لا تتحقق بصورة اعتباطية مرتجلة، وإنما تحتاج إلى مخزون معرفي يقوم على أركان وشروط، وتدفعها دوافع ومثيرات، وتقف في طريقها العقبات. إلا أنها في النهاية عملية واعية يقوم بها الفرد عن وعي وإدراك، ولا تتم بمعزل عن البيئة المحيطة، أي أن عملية التفكير تتأثر بالسياق الاجتماعي والسياق الثقافي الذي تتم فيه.
وهذا يعني أننا لو تمكنا أن نُعلم عقل الطفل ليقوم بإعادة نمذجة العالم الذي يعيش فيه حسب قدراته الذهنية، وجعلنا عقله أكثر فعالية في تحقيق أهدافه وخططه ورغباته وغاياته، وتطوير الخيال لديه ومعرفة المصطلحات، والإسهام في عملية حل المشكلات، والاستنتاج واتخاذ القرارات، نكون قد علمنا الطفل مهارة التفكير.
ولكن هل التفكير كمهارة يمكن أن يتعلمها الطفل؟ وإن كانت كذلك، كيف؟
نحن نؤمن أن التفكير مهارة شأنها شأن أي مهارة أخرى يمكن اكتسابها وتعلمها واستمرار تعلمها وذلك بتشغيل الدماغ بفعالية دائمة، وإن كان البعض يشكك في ذلك، ولكننا نميل إلى أن التفكير مهارة يمكن اكتسابها وربما ما يؤكد هذا التوجه هو ما تقوم به الكثير من المعاهد المتخصصة والمؤسسات التعليمية من تطبيق ذلك فعلاً على أرض الواقع، وفي أماكن مختلفة من العالم وذلك بإدخال مهارة التفكير ضمن المناهج لاتخاذه سبيلا للتحصيل المعرفي وإنتاج الأفكار.
حسنٌ، إن كان التفكير مهارة، فكيف يمكننا أن ننمي هذه المهارات لدى الطفل ؟
إن عملية تنمية مهارات التفكير – وخاصة لدى الأطفال – ليست من السهولة بمكان، فهي تحتاج إلى منهجية واضحة وآلية محددة يمكن أن يتبعها الوالدان والمعلمون حتى يساهموا بصورة أو بأخرى في تنمية نمطية التفكير لدى الطفل، ولكن بأي حال من الأحوال هذه المنهجية وهذه الآلية يمكن أن نطلق عليها مصطلح «إدارة التفكير».
وإدارة التفكير؛ ليست إدارة بالمعنى الصحيح وإنما هي منهجية موضوعية منظمة للتفكير أو لتنمية مهارات التفكير لدى الإنسان، وهنا – ونقصد فيما يخص الأطفال – يمكن تقسيمها إلى ثلاثة جوانب مختلفة إن كانت متداخلة ومترابطة بعض الشيء، حيث إننا نتحدث عن الجانب الخاص بالوالدين، الجانب الخاص بتنمية المهارات المختلفة، والجانب المرتبط بالتدريب والتعليم.
أولاً: الجانب الخاص بالوالدين: في إدارة التفكير وعندما نتحدث عن الوالدين فإننا نتحدث عن الأب والأم، وليس أحدهما إذ أن تعليم الأطفال وتنمية مهارات التفكير لديهم يحتاج إلى الوالدين وليس أحدهما، وكأن الآخر يتفرج ولا تعنيه الأمور، لذلك فإن على الوالدين:
1- أن يكونوا ملمين بأنواع وسبل التفكير المختلفة، مثل: طريقة سكامبر، استمطار الأفكار، التفكير خارج الصندوق وما إلى ذلك.
2- أن يكونوا ملمين ولو بصورة جزئية ببعض مبادئ علم نفس الذكاء والأنواع المختلفة للذكاء، وربما اختبارات الذكاء.
3- أن يكونوا ملمين بأساسيات التربية المختلفة، وخاصة التربية بالحب.
4- أن يكونوا ملمين بأساسيات التعليم المختلفة، مثل التعليم باللعب.
5- أن يكونوا ملمين بلغة الجسم وتعابيره.
ونحن إذ نقول ذلك فإننا لا نحتاج إلى والدين خريجي معاهد تربية وعلم النفس، وإنما نحتاج إلى والدين يرغبان في تنمية مهارات التفكير لدى أبنائهم، بالحب، وليس بالعنف ولا بالإكراه، نريد من الوالدين أن يصغوا «وأكرر أن يصغوا» لأبنائهم لا أن ينهروهم، وأن يحاوروهم لا أن يعنفونهم، نريد أن نبني الحب أولاً في المنازل، وبالتالي الهدوء وراحة البال، فإن توفر ذلك فإنه يمكن أن ننتقل إلى الجانب الآخر.
ثانيًا: تنمية المهارات المختلفة: نجد أنفسنا في إدارة التفكير أمام ثلاثة مهارات تحتاج إلى تنمية، وهي:
أ‌- مهارات الإعداد النفسي والتربوي.
ب‌- المهارات المتعلقة بالإدراك الحسي.
ت‌- مهارات متعلقة بالمعلومات والخبرة.
لنتطرق إلى هذه النقاط بشيء من التفصيل.

أ- مهارات الإعداد النفسي والتربوي، حيث تتمثل في:
1- أن نثير رغبة الطفل في الموضوع، ونثير حب الاستطلاع لديه ونثير التساؤلات وحب التعمق في الموضوع.
2- أن نزرع ثقته بنفسه وقدرتها على التفكير والوصول إلى النتائج.
3- أن ننمي العزم والتصميم، والتي يمكن أن تتمثل في السعي لهدف؛ وتحديد الوجهة وطريقة العمل والمتابعة الدؤوبة الذاتية لذلك؛ والحرص على الوصول إلى النتائج المفيدة.
4- المرونة والانفتاح الذهني وحب التغيير: أن يقر الطفل بالجهل إن لزم؛ ويستمع إلى وجهة نظر الآخرين ويستشيرهم، فالأطفال جبلوا على العناد لذلك يجب أن نعودهم على الاستعداد للعدول عن وجهة نظرهم إن لزم الأمر؛ وربما التريُّث في استخلاص النتائج.
5- سهولة التواصل مع الآخرين والانسجام الفكري معهم، وخاصة إن دعت الظروف للعمل بأسلوب الفرق الجماعية، وخاصة في طرح الأفكار وإجراء الحوار وتقبل الآراء الأخرى التي ربما تناقض رأيه هو.

ب ‌- المهارات المتعلقة بالإدراك الحسي والذاكرة فيمكن تلخيصها كالتالي:
1- توجيه حواس الطفل حسب الهدف والخلفية العلمية أو الفكرية، وهذا يعني أن يتمرس الطفل على توجيه انتباهه نحو الهدف المراد الوصول إلى تحقيقه.
2- تعليم الطفل الاستماع الواعي والملاحظة الدقيقة وربط ذلك مع الخبرة الذاتية، أي تمحيص الاحساسات والتأكد من خلوها من الوهم والتخيلات.
3- توسيع نطاق الإدراك الحسي وذلك بالنظر إلى الأمر من عدة اتجاهات ومن عدة زوايا.
4- تعليم الطفل كيفية تخزين المعلومات وتذكرها بطريقة منظمة واستكشافية؛ وذلك بإثارة التساؤلات، استكشاف الأنماط، استخدام الأمارات الدالة والأشياء المميزة، واللجوء إلى القواعد التي تسهل تذكر الأشياء، ومناقشة الآخرين والتحدث معهم علهم يثيرون فيه ما يؤدي إلى التذكر.

ت‌- أما المهارات المتعلقة بالواقع والمعلومات فهي كالتالي:
1- على الطفل أن يتعلم إعادة ترتيب المعلومات المتوفرة: التركيب، التصنيف، اتباع المنهج الملائم لذلك.
2- على الطفل أن يتعلم طرق جمع المعلومات واستخراجها من مصادرها، السؤال عنها، البحث التجريبي.
3- على الطفل أن يتعلم تمثيل المعلومات بصورة ملائمة كوضعها في جدول أو رسم بياني أو مخطط أو صورة.
4- أن نساعد الطفل في استكشاف الأنماط والعلاقات فيما بين المعلومات: كترتيبها، وتعاقبها، والسبب والمسبب، والنموذج وما يتعلق بذلك.
5- على الطفل أن يتعلم اكتشاف المعاني وذلك باستخدام الاشتقاق، التلخيص، التخيل للكشف عن المضمون.

ولكن في إدارة التفكير يجب أن نتذكر أنه حتى تنطلق عملية التفكير بصورة مجدية وعملية فلابد من وجود الدوافع، والحوافز المشجعة على القيام بذلك، كالدعم المادي والمعنوي، ولابد من إتاحة الفرصة للطفل من استثمار ما اكتسبه من مهارات بالممارسة والتطبيق في مناحي مختلفة.

ويظل الموضوع معلقا، حتى نستكمل الطرق العملية التي يمكن ممارستها في تنمية التفكير لدى الأطفال.

الأحد، 23 نوفمبر 2014

طفلٌ يقرأ

 

تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :٢٣ نوفمبر ٢٠١٤

بقلم: د. زكريا خنجي

عبء وسؤال كبير يقع على عاتق العديد من الأسر التي تهتم، وخاصة في ظل وجود كل تلك المغريات الإلكترونية والفضائيات الخطيرة؛ كيف أجعل ابني أو ابنتي يهتم بالقراءة بصورة عامة؟ كيف أجعله يقرأ كتاب سواء كان ورقيا أو إلكترونيا؟ كيف أجعله يترك الواتسأب والإنستغرام والعوالم الافتراضية والفضائيات العالمية ويقرأ صفحات من كتاب علمي أو معرفي أو ثقافي؟ كيف نحول أطفالنا من الاهتمام بالكورة إلى القراءة؟
مثل هذه الأسئلة كثيرًا ما تتوجه إليّ وخاصة في الدورات التدريبية التي أقيمها بين فترة وأخرى ذات العلاقة بالكتابة والتأليف وبالتالي القراءة.
قالت لي إحداهن ذات مرة؛ حاولت كثيرًا أن أجعل أبنائي يقرؤون، ودفعت الكثير من الأموال على الكتب، وكنت أشجعهم باستمرار، ولكن النتيجة لا شيء، دائمًا سلبية فالأطفال لا يحبون القراءة.
وثنى على ذلك عدة أفراد سواء من الإناث أو الذكور، وعلى ذلك اتهم الجيل الجديد بأنه جيل لا يقرأ، إلا أن واحدة من الحضور لم تؤيد ذلك ولكنها سألت الحضور هذا السؤال: هل أنتم تقرأون؟ كم كتابا تقرأون في الشهر؟ فسكت الجميع وكأن على رؤوسهم الطير، كما يقول المثل العربي، لم يتحدث أحد وإنما بدا كأنهم يتململون، وهنا طبعًا كان بيت القصيد، لماذا لا يقرأ الطفل والشباب، هل لأننا نحن الآباء لا نقرأ؟ هل لأننا قدوة سيئة في هذا الجانب ؟
حسنٌ، لنعد إلى البداية ونسأل أنفسنا كيف نشجع أطفالنا على حب القراءة؟
هناك أمور عديدة وكثيرة وأساليب تربوية متنوعة يمكن أن يسلكها الآباء والأمهات حتى يثيروا رغبة القراءة عند الأطفال، إلا أننا نجد أن النقطة الأولى يجب أن تبدأ من الدولة، فالدولة يجب أن يكون لديها توجه عام لجعل الأطفال يقرؤون، فليس من المنطق أو المعقول أن يقوم الآباء والأمهات بإثارة رغبة القراءة عند الأطفال والفضائيات تحاول أن تهدم كل تلك الرغبة، ووسائل التواصل الاجتماعي تقتل هذه الرغبة بما تبثه من برامج وإشاعات وما إلى ذلك.
على الدولة أن تجند كل وزارتها ذات العلاقة ومسئوليها وكل من له الصلة، وأن يعمل الجميع في هذا الاتجاه، فيمكنها مثلاً أن:
1- تنشئ المكتبات العامة في كل منطقة، وإن كانت هذه المكتبات موجودة فإن عليها أن تكون موجودة بحق، إذ يجب أن تقيم البرامج ومسابقات القراءة وتوزع الجوائز والهدايا للرواد الدائمين وأكثر المداومين على الاطلاع وما إلى ذلك وأن تثير لدى الأطفال هذه العادة بمثل تلك البرامج، لا أن يقوم الموظفون بفتح باب المكتبة وغلقها بحسب الدوام الرسمي، ولا يؤم المكتبة إلا القلة القليلة.
2- أن تخصص جزءا من ميزانياتها السنوية لطباعة الكتب - لجميع الفئات - وخاصة الكتب ذات المستوى العلمي والفكري الجيد وتبيعها للمواطنين بسعر الكلفة، ويمكن أن تركز على كتب الأطفال وخاصة في البداية.
3- أن تعاد صياغة المناهج وخاصة في مراحل التعليم الأساسية لتكون القراءة وحب القراءة والمطالعة جزءا منها، لا أن يتعلم الطفل لينجح فقط، وإنما يتعلم لكي يحب القراءة والمطالعة.
4- أن تستحدث برامج تلفزيونية وإذاعية تحث على القراءة والمطالعة، ويمكن أن تقام مسابقات ثقافية وعلمية من خلال هذه الأجهزة، وكذلك يمكن أن يشجع الأطفال على التأليف والكتابة بشتى صورها، وتمنح جوائز قيمة للفائزين.
5- تشجع الكتّاب ومؤلفي البلاد على التأليف والكتابة، ويمكن أن تسهم الدولة بجزء من تكاليف الطباعة والنشر والتوزيع.
6- يجب أن تسهم الدولة في إقامة المراكز الثقافية وأندية القراءة للتحاور الفكري، سواء على مستوى الوطن أو على مستوى الجامعات أو المدارس.
وهذا غيض من فيض، وهناك العديد من الأمور التي من الممكن أن يقع عبئها على الدولة ولا نريد الإتيان بها، ولكن ماذا يقع على أولياء الأمور، هل يقفون مكتوفي الأيدي ويتفرجون من غير أن يكون لهم وجود وتأثير في الموضوع ؟
في الحقيقة على أولياء الأمور يقع عبء كبير ويمكن أن نلخصه في التالي:
1- القدوة الحسنة، فليس من المنطق أن تطلب الأم من أبنائها القراءة وهي لا تقرأ ولا تقرب كتابا، وعندما نتحدث عن الأم فإننا نقصد الجميع، فالأسرة يجب أن تكون قارئة، فالأسرة خير محضن لتربية الأبناء على حب القراءة.
2- يفضل أن يكون في المنزل مكتبة حتى لو كانت صغيرة، ويجب ألا يمنع أطفال المنزل من ارتياد هذه المكتبة، فإن كانت تحوي بعض الكتب الثمينة الخاصة بالوالدين، فيمكن تخصيص جزء من هذه المكتبة للأطفال وإبعاد تلك الكتب الثمينة عنهم خوفًا من تمزيقها واللعب بها.
3- خصص جزءا من وقتك -الأب والأم أو أحدهما- للجلوس مع الأطفال في المكتبة لممارسة القراءة معهم، اقرأ لهم فترة واسألهم بعض الأسئلة عن موضوع الكتاب لمعرفة مدى استيعابهم للموضوع، وخصص جزءا من الوقت ليقوموا هم بالقراءة بدلاً منك واستمع لهم، وناقشهم في موضوع الكتاب.
4- عند إقامة معارض الكتب خذهم معك إلى المعرض وأعط كل واحد منهم مبلغا من المال ودعه يشتري الكتاب الذي يحبه، وإن عجز أو استشارك فلا تبخل عليه بالنصيحة، وربما تسهم معهم في البحث عن الكتاب الذي يحبونه أو الكتاب الذي يناسب أعمارهم، المهم ألا يخرج من المعرض إلا بكتاب قد اشتراه هو بنفسه.
5- ولا تنس أن تكتب اسمه -هو- على الكتاب وأن تجد للكتاب مكانا في مكتبة المنزل، وهذا لا يمنع أن تضع الكتاب فترة عند سريره حتى يقلبه ويتمعن فيه بين فينة وأخرى.
6- اجعل الكتاب والقراءة جزءا من حياتك وحياتهم، وإن كنت تشاهد التلفزيون ناقشهم فيما يعرض على الشاشة الصغيرة، إن ذهبت معهم إلى السينما لمشاهدة فيلم ناقشهم فيه واسمع آراءهم وأفكارهم، اجعل جزءا من حديثك معهم حديثا ثقافيا فكريا.
7- لا تضغط عليهم ولا تضغط على نفسك ولا تغضب إن انصرفوا بعض الوقت عن الكتاب، اتركهم يمارسون بعض الأنشطة الأخرى، ولكن ربما أمكنك بعد ذلك إعادتهم إلى الكتاب بطريقة شائقة ومسلية.
8- أثناء سفرك وغيابك عنهم فترة أحضر لهم مع الهدية التي جلبتها لهم كتابا كهدية، ويمكنك أن تقدم لهم مع هدية عيد ميلادهم كتابا، أي اجعل الكتاب أجمل هدية في جميع المناسبات.
9- وقبل السن المدرسي ساعدهم على ممارسة الأنشطة التي تعد فيها القراءة جزءا من النشاط، وإن كان هذا الجزء صغيرا.
10- وأخيرًا وهي أولاً يجب أن تعيش أنت أولاً أن القراءة جزء مهم من عقيدتنا الإسلامية، فهي أول آية نزلت، وأول فكرة سادت وأول تشريع ألزم، فاجعل القراءة جزءا أساسيا وعقائديا من فكرك، حينئذ سيتوجه أطفالك للقراءة.
وهذا أيضًا غيض من فيض، فلا يستطيع مثل هذه المقال الصغير إلا أن يكون جزءا من توجيه عام للقراءة، لذلك أقول دائمًا يجب أن تتحول القراءة إلى عادة من العادات الحسنة في حياتنا الفكرية والمعيشية، شأنها شأن الرياضة والأكل والصلاة وما إلى ذلك.

قال لي صديق حكايته مع القراءة، يقول:
بدأت حكايتي مع القراء في سن مبكرة جدًا ربما كنت في الرابعة الابتدائية، قبل أن أسترسل في قصة صديقي فإن القصة التي نتكلم عنها حدثت في الستينيات من القرن العشرين، أي كان عمر هذا الصديق آنذاك حوالي 9 سنوات، كنت في ذلك الوقت شغوفا بالقراءة إلى درجة كبيرة، لا أعرف لماذا ولكن كنت أشعر دائمًا بهاجس يدفعني إلى اقتناء كل مجلة يحضرها والدي إلى المنزل - بالمناسبة والده يرحمه الله كان أميًا وليس جاهلاً - كنت أطالعها من الغلاف إلى الغلاف، كنت أشاهد الصور وأحاول أن أكتب المجلة في أوراقي الخاصة وأنا لا أعرف ماذا أكتب لأني لم أكن أعرف القراءة آنذاك.
كنت بين فترة وأخرى أطلب من أبي أن يعطيني (100 فلس) وهي تعني الكثير في ذلك الوقت من أجل شراء مجلة مصورة -مثل مجلات سوبرمان وطرزان وما إلى ذلك- كان والدي يزمجر ويغضب ولكنه في النهاية يخضع لرغبتي في القراءة ويعطيني، فكنت أركض إلى المكتبة لشراء مثل هذه المجلات، فكنت أحاول قراءتها وأجد صعوبة بالغة ولكني كنت أرغب أن أعرف وأن أتعرف على معارك طرزان والقرود وسوبرمان والكائنات الفضائية ومجرمي الأرض، ومع إصراري على القراءة والاطلاع بدأت بالفعل أقرأ، وعندما بلغت المرحلة الإعدادية لم تكن مثل هذه المجلات تشبع رغبتي في القراءة فكنت أجمع من مصروفي اليومي 50 فلسا على 50 فلسا حتى يتجمع لدي دينار حينئذ أذهب إلى سوق المنامة لشراء كتاب من كتب مصطفى محمود أو العقاد أو المنفلوطي، كانت المعاناة شديدة مع عمالقة الأدب العربي ومفكري العرب، ولكنها رغبة تتأجج في القلب لم أستطع يومًا أن أكبتها.
وعندما سافرت إلى الجامعة كنت أخصص مبلغا من مصروفي الشهري لشراء الكتب، كل أنواع الكتب، لم أحدد صفة الكتب التي أشتريها أو أوصافها وإنما كنت أشتري من كل البحار والأطياف، واليوم أصبحت لدي مكتبة تحوي المئات من تلك الجواهر النفيسة.
ثم قال: رحم الله والدي فقد علمني وشجعني على القراءة بالمائة فلس التي كان يستقطعها من مصروفنا حتى يشبع رغباتي في القراءة، فلربما لو حرمني من هذا المبلغ لما أصبحت ما أصبحت عليه اليوم.

الخلاصة، لو حاول كل أب وحاولت كل أم أن تغرس هذا الحب في نفوس أبنائنا لتحررنا من واقع شبه الأمية التي نعيشها في الوطن العربي اليوم، لوجدنا أن أولادنا يعيشون حالة القراءة أكثر من عبثهم بالواتسأب والإنستغرام.

الاثنين، 17 نوفمبر 2014

كائنات فطرية - بلسم مكة.. خزانة أدوية منذ القدم

 

 تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :١٨ نوفمبر ٢٠١٤

بقلم الدكتور زكريا خنجي

بلسم مكة أو «مر مكة» شجرة فطرية اسمها العلمي (Commiphora myrrh). وتوجد هذه النبتة في منطقة الحجاز على شكل شجيرة يبلغ معدّل ارتفاعها ثلاثة أمتار، وتتميز بأغصان شائكة وأزهار صغيرة مائلة إلى الحمرة. وتتواجد النبتة التي تعرف أيضا بـ«شجرة المُرّ» في المساحات الممتدة ما بين مكة المكرمة والمدينة المنوّرة، وخصوصًا في المناطق الجبلية الواقعة غرب المدينة المنورة حيث تظهر بشكل كبير مع بداية موسم الأمطار.
وتعرف الشجرة بتسميات متعددة منها حب البلسان أو بيلسان نسبة إلى ثمارها، أو يسمى أيضًا بشجر البشام وخصوصًا في اليمن، وكذلك يسمى في بلاد الشام ببلسم الجليل. وتتميز الشجيرة برائحتها الفواحة العطرة عند فرك أوراقها أو أخذ غصن منها، لهذا تستخدم أغصان شجيرة البشام من قبل أهل البادية كمسواك ذي رائحة عطرة تعطر الفم، كما أن القشور المأخوذة من لحاء الشجيرة تحتوي على مادة عطرية تستخدم كعصارة مطهرة للجروح ومبيدة للبكتيريا، فضلاً عن استخدام تلك القشور كشاي لذيذ ذات رائحة محببة.
وقد استخدم الصحابة رضوان الله عليهم مشتقاتها في علاج الجرحى في الغزوات والحروب، فللبلسم خاصية مهمة في كونه قاتلا للجراثيم والميكروبات ولذا يستخدم في تطهير الجروح وتقرحات الجلد. أما حجاج بيت الله الحرام من الهند وباكستان فقد استخدموه بوضع حبة من المر في أنوفهم في فترة الحج وقاية من الأوبئة، والأمراض.
وقال خبير الأعشاب الأردني رزق عز الدين لمجلة نادي المال والأعمال «مر مكة» أو مر الحجاز ويعرف أيضا بــ«مر البطارخ» لمشابهته لبيض السمك، أو مر الجليل، لا يخلو مرجع قديم أو حديث في طب الأعشاب إلا وذكره، وقد أسهب الأقدمون في فوائده كثيرًا. وهو مستخلص من شجرة البشام او البيلسان. وتظهر مادة البلسم حين يتم استخلاص الزيت من السائل الذي يرشح بعد خدش اللحاء، فيقطر منه ببطء سائل لزج تفرزه النبتة له رائحة عطرة تربنتينية نفاذة، ويتصلب هذا السائل حين يتعرض للهواء. أما عن النوع الجيد منه فهو ذو لون شفاف وقد يميل إلى اللون البني الفاتح، أما النوع الرديء، فهو الذي يدخل فيه ألوان بنية أو سوداء ويبدو كأن فيه رمالا. وأضاف عز الدين «فالمادة المستخلصة هي مر غروي، يحتوي على مادة صابونية ذات خواص جمالية، تعطي للجلد ملمسًا ناعمًا مخمليًا وتساعد على التخلص من الرؤوس السوداء وتخفف من حساسية الجلد وتساعد على شفاء والتحام الجروح. وقد تساعد هذه المادة في بعض المستحضرات مع مواد أخرى لمعالجة الكلف والأمراض الجلدية، وتستخدم أيضًا في صناعة العطور، لكون رائحتها تبقى فترة طويلة من الوقت والبعض يستخدمه كبخور».
وتابع عز الدين: «أما أوراق الشجيرة فهي تعتبر علفًا جيدًا للحيوانات وخصوصًا الإبل حيث يؤدي رعيها إلى زيادة إدرار الحليب، أما ثمار البشام الناضجة التي تعرف بالبلسان أو البيلسان فهي ذات قدرة كبيرة على إطفاء العطش عند تناولها، أما غير الناضجة ففيها درجة من السمية. وللمر فائدة بإضافة مواد أخرى فعالة في حالات السعال المزمن والربو ولصفاء الصوت، وإزالة البحة، ولأوجاع الكلى والمثانة وخصوصًا في حالات الالتهابات البولية، ويفيد في نفخ المعدة ووجع الأرحام والمفاصل، وقد يفيد في طرد الديدان».
وختم عز الدين «مراجعنا في هذه الاستخدامات كثيرة وموثقة منها قانون الطب لابن سينا وتذكرة داوود الأنطاكي، وكذلك تجربتنا العملية المتواضعة التي شهدناها على مرضانا الذين تجاوبوا وبشكل إيجابي مع العلاج ومن دون آثار جانبية».

commiphora6

GhadiNews-%20Mecca%20Balsam11635483898420468750

جلسة مع رجال الأعمال والحديث عن البيئة

 

 تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :١٨ نوفمبر ٢٠١٤

الدكتور زكريا خنجي

جمعتني – في سلطنة عمان – جلسة مباركة في منزل ابن عمنا الوجيه العماني خليل بن عبدالله الخنجي مع مجموعة رائعة من كبار رجال الأعمال، وفي الحقيقة إنها أول مرة أجالس فيها رجال أعمال ونتحدث عن موضوع يهمني ويهمهم وهو موضوع البيئة.
دار حوارنا حول دور رجل الأعمال في المحافظة على البيئة والمسؤولية الاجتماعية التي يمكن أن تقع عليه أمام مجتمعه وبيئته، ولأني – كما أشرت – للمرة الأولى أجالس رجال الأعمال لنتكلم حول هذا الموضوع فقد أذهلني ما سمعت عن مفهوم هذه الشريحة من المجتمع، وللأسف لم يؤخذ رأيهم في الحسبان طوال السنوات الماضية.
ليس مهمًا ما أثير في تلك الجلسة، وإنما ما دار بخلدي بعد تلك الجلسة العديد من الموضوعات البيئية التي لو استطعنا أن نشرك فيها رجال الأعمال والصناعة وأن نمد الجسور بيننا وبينهم لاستطعنا أن نخفف الكثير من المشاحنات والمجادلات والاتهامات بين الطرفين.
فرجالات البيئة يتهمون رجال الأعمال والصناعة بأنهم يتسببون في تلويث البيئة وخرابها من أجل بضعة دنانير ومن أجل مصلحتهم الشخصية فقط، بينما رجال الأعمال يعانون الأمرّين حتى يستخرجوا تراخيص العمل لإقامة بعض المنشآت، حيث إن المطلوب منهم قائمة طويلة من الشروط والمواصفات والمعايير التي يجب أن ينفذونها حتى يمكنهم إقامة مشاريعهم.
ومثل هذا التقاذف بين الطرفين بدأ يلعب في ذهني وقمت باسترجاع كل تلك السنوات من العمل البيئي، ترى ماذا فعلنا نحن؟ لماذا كنا نعرقل كل تلك المشاريع العملاقة؟ ما المطلوب حتى تتم تلك المشاريع وتدر الثروة على البلاد؟
ثم تذكرت أمرا آخر، وهو لماذا لا يشارك رجال الأعمال والصناعة في صياغة القوانين والقرارات البيئية؟ أليس لهم الحق؛ حيث إنهم هم المعنيون بتطبيق كل تلك القوانين؟ ألا يحق لهم أن يقولوا كلمة في هذا الخصوص؟ لماذا نشك بوطنيتهم وخوفهم على مستقبل البيئة والوطن وحق الأجيال القادمة في الحياة؟
لماذا لا نجلس معهم لنسمعهم ونصغي إليهم؟
نحن نتهمهم وهم يتهموننا، ونتقاذف الكلمات والألقاب، ونعتبرهم ملوثين ومفسدين وهم يعتبروننا حجر عثرة في طريق التنمية والتقدم والصناعة، ثم ماذا بعد؟ ألا يمكن أن نجلس على طاولة واحدة ونتفاهم، لنسمع ماذا يريدون وليسمعوا وجهات نظرنا في مشاريعهم، حتى نصل إلى نقاط مشتركة لنعمل على أساسها في تنمية أوطاننا بدلاً من هذا الجفاء؟
ألسنا أبناء وطن واحد، تهمنا المصلحة العامة؟ أعتقد أنه آن الأوان لكي نتفاهم ونتقارب ويصغي بعضنا إلى بعض من أجل تنمية مستدامة.

السبت، 15 نوفمبر 2014

العودة إلى موضوع الانتخابات

 

بقلم: الدكتور زكريا خنجي

نشر في جريدة أخبار الخليج في 16 نوفمبر 2014

من الواضح جدًا أن هناك استياء عام في الشارع البحريني من موضوع الانتخابات فما زال الكثير من الناس عازف عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع حتى يقوم بحقه في اختيار نائب لمجلس النواب، وخاصة بعد أن شاهد الناس أن عدد كبير من المترشحين قد أعادة ترشيح نفسه، وهم أنفسهم الذين وقفوا ضد زيادة الرواتب وهم أنفسهم الذين قلموا أظافر المجلس في موضوع استجواب الوزراء.

ليس ذلك فحسب وإنما هناك اعتقاد وقناعة شبه تامة أن الحكومة هي التي تختار من تريد ليصبحوا أعضاء للمجلس وتقصي من لا تريد، لذلك فإن الناس أصبحت ترتاب في العملية الانتخابية برمتها.

وقضية أخرى، فإن الناظر إلى وجوه من تقدموا لترشيح أنفسهم – ليس كلهم ولكن عدد منهم – لا يعرف التحدث بالعربية أو أن يكتب اسمه، فكيف يمكنه أن يكون ممثلاً لدائرة انتخابية، فما بالنا بمشجع كرة قدم وصباب شاي وما إلى ذلك، ونحن هنا لا نسخر من أحد أو نقلل من شأنه، ولكن المجلس من المفروض أن يدخله نوعية من الرجال والنساء ذوي الكفاءات الذين يستطيعون أن يرفعوا من شأن البلد والمواطن، لا الذين يفكرون في جيوبهم وامتيازاتهم فقط، هؤلاء سيقومون مستقبلاً بوضع التشريع ومراقبة عمل الحكومة ودراسة الميزانيات وما إلى ذلك، فهل يستطيع كل من تقدم بترشيح نفسه أن يعمل ذلك ؟ أم أن الكفاءات يتم إقصاءهم من العملية الانتخابية وهذا الحديث بدأ يسري كسريان النار في الهشيم وخاصة بعد أن تم إقصاء عدد من الكفاءات الوطنية من العملية الانتخابية بسبب أو بآخر.

كما ولا حظنا أن بعض الجمعيات تقدم مرشحيها للانتخابات ليس بسبب كفاءاتهم أو قدراتهم العالية وإنما بسبب أنهم أعضاء في الجمعية فقط، حتى وإن لم يكن قادر على فعل شيء، المهم أن تمتلك الجمعية صوت ومقعد إضافي في المجلس يمكن أن يساعدها على تمرير مشاريعها وأفكارها، هذا طبعًا إن كان لها مشاريع وأفكار.

ومن المضحك المبكي – وخاصة في هذه الدورة الانتخابية – وجد بعض أعضاء المجالس البلدية في نفسه الكفاءة أن يقدم نفسه للترشيح كنائب للبرلمان، على الرغم من أنه لم يقدم لدائرته الخدمات المقررة والتي من المفروض أن يقدمها كعضو مجلس بلدي، يا ترى ماذا يمكن أن يقدم هذا الإنسان للبرلمان بعد أن كان عاجزًا أن يقنع المواطنين في دائرته من خلال عضويته في المجلس البلدي أنه الكفاءة المناسبة للمنصب القديم مقارنة بالمنصب الجديد ؟

بعض المرشحين يقدم نفسه على أنه الإنسان "السوبرمان" الذي يمكنه أن يحرك كل الملفات المغلقة؛ مقل: الإسكان والتعليم والشباب والمرأة والمخلفات والإيجارات والكهرباء وكل شيء، ويعزف على أوتار رغبات الناس وضعفهم وتطلعاتهم بحياة كريمة، وفي الحقيقة فإن الناس تعرف علم اليقين أنه لا يمكن أن ينجز 1% من الكلام الذي يقوله، ولكن الناس ضعفاء أمام احتياجاتهم الأساسية ورغباتهم الحياتية، فيضطرون إلى تكذيب أنفسهم ولكنهم أيضًا لا يصدقون مرشحيهم، وإنما يتغافلون عن هذه الحقيقة لاعتقادهم أن هذا المرشح يمكن أن يوظف ابنهم أو أن يحلحل الرواتب التقاعدية وبعض الأمور الحياتية الأخرى.

مثل هذه الأمور وأمور أخرى كثيرة جعلت الناس تعزف عن الرغبة في الاستمرار في العملية الانتخابية، وجعلت النكات تنطلق من الأفواه لتتندر من الانتخابات برمتها، فتزعزعت الثقة، فضرب اليأس جذوره في النفوس، إذن كيف يمكن إعادة الميزان إلى وضعه الطبيعي ؟

لا أدعي أن عندي الحل أو العصا السحرية لتوضيح الحلول التي من الممكن أن تمارسها الحكومة أو مجلس النواب للخروج من عنق الزجاجة، ولكن حتى تتضح الأمور بأسلوب علمي يجب أن ندرس الموضوع أولاً، كيف ؟ على الحكومة أن تصمم استبانة وطنية لدراسة اتجاهات المواطنين نحو البرلمان، وما تخوفهم من هذا المجلس، وهل هناك فعلاً عزوف أم أننا نشعر بذلك فحسب، وربما في الحقيقة – قد – لا يوجد عزوف، هل تمت دراسة كل الإشاعات والأقوال التي تروج عن البرلمان ؟ نحتاج فعلاً إلى حقيقة.

نتائج هذه الدراسة الوطنية يمكن أن تعد مؤشر لاتجاهات الناس وربما حتى معلوماتهم عن البرلمان وأدواره المختلفة في المجتمع، فكم مواطن لا يعرف دور المجلس النيابي في المجتمع ؟ وكم منهم يخلط ما بين المجلس النيابي والمجلس البلدي ؟ وكم من راغب في ترشيح نفسه للبرلمان وهو لا يعرف دوره في هذا البرلمان ؟ وماذا يحتاج الناس لرفع مستوى الوعي لديهم بالحياة البرلمانية ؟

تبنى على هذه الدراسة بعض البرامج التوعوية سواء من خلال التلفزيون أو الإذاعة أو الصحافة بالإضافة إلى استخدام قنوات ووسائل التواصل الاجتماعي، فاليوم يعد تجاهل وسائل التواصل الاجتماعي في أي خطة إعلامية ضرب من الغباء السياسي يؤدي حتمًا إلى الفشل السياسي.

وفي الحقيقة فنحن لم نسمع "بمعهد البحرين للتنمية السياسية" إلا منذ حوالي شهرين فقط، حينما بدأ في تنفيذ بعض المحاضرات للراغبين في الموضوعات المتعلقة بالبرلمان، وإن كنا نعتقد أن على هذا المعهد يقع عبء كبير في عمل العديد من البرامج التدريبية المستمرة طوال العام للراغبين كلها تصب في موضوع البرلمان والمجالس البلدية وما إلى ذلك، وإن كنا نقول برامج تدريبية مستمرة فإننا نقصد برامج تدريبية وليس مجرد بعض المحاضرات السريعة فقط، وليس المطلوب هنا بعض البرامج السياسية وإنما يمكن أن يشمل ذلك العديد من الموضوعات الأخرى التي يمكن أن تخدم النائب أو العضو البلدي في حياته العملية؛ مثل: القدرة على الحوار وتقبل الرأي الآخر، القدرة على التحدث أمام وسائل الإعلام، كتابة المحاضر والتقارير، إجراء البحوث .. الخ.

وربما يأتي ذلك اليوم الذي نفكر فيه في المؤهل الدراسي للراغبين في الترشيح للبرلمان، وقد يقول قائل إن من يملك الشهادة الجامعية قد لا يكون مؤهلاً للمجلس، فكم من إنسان قد لا يملك تلك الشهادة إلا أنه في حياته العملية إنسان فعال ومنجز ومتمكن من إدارة شئون أعماله ونفسه ومجتمعة، وفي الحقيقة نحن لا نختلف عن ذلك كثيرًا، ولكن من غير المعقول أيضًا أن نترك الحبل على الغارب لكل من جاءه الإلهام بالليل فيعتقد أنه الشخص المناسب لكرسي البرلمان، نحن نعتقد أنه يجب أن تكون هناك ضوابط ومقاييس واضحة ومحددة للعيان لكل من يرغب في الجلوس تحت قبة البرلمان.

ونعتقد أيضًا أنه حتى تتغير صورة البرلمان في أعين الناس فإنه يجب أن ينجز شيء – أي شيء – يكون للمواطن فيه النصيب الأكبر، وأن يمتلك فيه النواب أدواتهم البرلمانية الصحيحة حتى يستخدمونها بصورة صحيحة، فالكثير من المواطنين يتساءلون كيف استطاع البرلمان في جلسة أو عدة جلسان قليلة أن يفرض على المواطنين ضريبة التعطل (1%) ولكنه لم يتمكن حتى الأن من زيادة الرواتب على الرغم من مرور 12 سنة على التجربة البرلمانية في البحرين ؟ لماذا تمكن المجلس من الأولى وعجز بل وعجز عجزًا كبيرًا من الثانية ؟

لماذا لم يتمكن البرلمان من القضاء على الفساد الإداري والمالي على الرغم من تقرير الرقابة المالي الواضح، لا وبل والشديد الوضوح، لماذا المماطلة من قبل النواب ؟

يسمع المواطن بالعجز المالي للدولة إلا أنه في المقابل يرى البذخ في أمور أخرى كثيرة، لذلك يتساءل أتقتير هنا وبذخ هناك ؟ إذن أين الشعارات التي رفعها النواب مثل "نعمل من أجل المواطن" أو ما شابه ذلك.

يرى المواطن عجز وعجز واستمرار للعجز وأخيرًا فشل يؤدي إلى إحباط، وبالتالي فقدان الثقة بالتجربة البرلمانية في البحرين.

الناس في البحرين اليوم منقسمين إلى عدة فئات؛ فئة حسمت أمرها لذلك فإنها في خانة مقاطعة الانتخابات، فئة أخرى أيضًا حسمت أمرها وهي مع الانتخابات، فئة تريد أن تنتخب ولكنها لا تعرف لمن تقدم صوتها، فئة لم تحسم أمرها بعد، وفئة رابعة وخامسة وسادسة .. الخ، كل هؤلاء – فيما عدا المجموعة الأولى – يريدون أن يقتنعوا بالتجربة البرلمانية وأن يقدموا صوتهم لمن يستحق هذا الصوت حتى يخدم الوطن، ولكن الكثير منهم لا يعرف كيف ؟ فهل قدمنا له يد العون حتى يجتاز هذا الحاجز ؟

سألت ذات يوم امرأة كبيرة في السن نوعًا ما عن مشاركتها في الانتخابات وهل ستذهب إلى صناديق الاقتراح في اليوم المحدد لتقديم صوتها، ابتسم وقالت: أكيد، فقلت لها: يا خالة أنت امرأة كبيرة في السن، وربما هذا الموضوع لا يهمك كثيرًا. قالت: يا ولدي أخاف أن يأتي يوم يقول فيه أحفادي إنه بسبب أجدادنا ماتت هذه التجربة في مهدها، أنا أقوم بهذا الفعل لأجل أن تبقى لأحفادي لعلهم يستطيعون أن يغيروا شيء في زمانهم.

هذه هي الإيجابية التي ننشدها نحن اليوم.

القضية ليست اليوم وإنما غدًا وبعد غد، ربما لم نعرف ولم نستطع نحن أن نتعامل مع هذه التجربة، فهل نقتلها في مهدها، ونولول أن البرلمان لم يفعل شيء لنا ؟ ولنتفق جدلاً إن البرلمان لم يقدم لنا شيء، ولكن بقاء البرلمان واجب والمحافظة على بقاءه فرض، وجود البرلمان بكل سلبياته اليوم أفضل بكثير من عدم وجوده.

إن الذين يريدون أن يُفشلوا التجربة فهؤلاء لا يعرفون معنى الديمقراطية، بل لا يؤمنون بها وإن كانوا يتصايحون عليها ويذرفون الدمع، هؤلاء طلاب حكم وثروة وامتداد للسلطوية، فالديموقراطية ليست كذلك.

لذلك ومن قناعة شخصية نقول إن من الإيجابية المشاركة وليست المقاطعة، فالمقاطعة سلبية.

الاثنين، 10 نوفمبر 2014

حلقة عمل – د. زكريا خنجي

في حلقة العمل البيئي لمعدي ومخرجي البرامج الإذاعية والتلفزيونية على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي "الكوارث والأزمات" سلطنة عمان من 4 إلى 6 نوفمبر 2014

DSC_1216

DSC00307

DSC_1340

المضافات الغذائية - الصبغة الحمراء 2 جي (E128)

 

تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :١١ نوفمبر ٢٠١٤

الدكتور زكريا خنجي

تعد الصبغة الحمراء 2 جي (E128) من الصبغات الصناعية التي تندرج تحت عائلة أصباغ المعروفة بأصباغ (azo) والتي تصنع عادة من المشتقات البترولية (coal tar)، وهي من الصبغات القابلة للذوبان في الماء وقابلة أيضًا للذوبان – بصورة طفيفة – في مادة الإيثانول. وعادة تأتي الصبغة على هيئة ملح (disodium salt of 8-acetamido-1-hydroxy-2-phenylazonaphthalene-3,6 disulphonate).
وعادة ما تستخدم الصبغة الحمراء (E128) في منتجات اللحوم لأنها لا تتأثر بثاني أكسيد الكبريت (E220) و[(E224,E223)، والذي يسهم في تبييض العديد من الألوان، ولكنها لا تستخدم في المواد الغذائية أثناء إجراء عمليات التصنيع بدرجات الحرارة العالية، ولا في المنتجات عالية الحموضة، حيث إنها تتحلل إلى ما يعرف بالصبغة الأمين الحمراء (10B)، وهي صبغة مشتبه بها.
ولقد ركزت معظم الدراسات التي درست الصبغة الحمراء 2 جي (E128) حول قدرتها على التحول إلى مادة (الانيلين Aniline)، التي يمكن أن تتداخل مع الهيموجلوبين في كريات الدم الحمراء، ولقد تبين من الدراسات التي أجريت على فئران التجارب أن الفئران التي تغذت على الصبغة (E128) أصيبت بفقر الدم.
ولقد فرض الاتحاد الأوروبي حدودًا لاستخدام الصبغة (E128)، حيث سمح بإضافتها للنقانق التي يتم تناولها على الإفطار بحد لا يزيد على 6%، ولحوم البرغر المخلوطة مع الخضراوات أو مع الحبوب بنحو 4%.
ولكن، وبعد المخاوف التي أثيرت في يوليو 2007 أعدت المفوضية الأوروبية مشروع اللائحة التنظيمية لوقف استخدام (E128) في تلوين الطعام، ولقد تمت الموافقة على هذا المقترح بالإجماع من قبل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وذلك على اعتبار أنها تتداخل مع هيموجلوبين الدم في كريات الدم الحمراء في صورة مادة الانيلين والذي يعتبر من المواد السامة، وهذه المخاوف قادت إلى أن الصبغة (E128) يمكن أن تكون مسرطنة.
ولقد منع استخدام هذه الصبغة (E128) في معظم دول الاتحاد الأوروبي إن لم يكن كلها، بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا واليابان وأستراليا.

البيئة بين القبح والجمال

 

تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :١١ نوفمبر ٢٠١٤

الدكتور زكريا خنجي

في حديث شائق مع الفنان التشكيلي إبراهيم بو سعد عبر برنامجنا الإذاعي الأسبوعي «استديو البيئة»، تحدث بو سعد عما أسماه «تنمية الثقافة الجمالية» و«تنمية الذائقة الجمالية» لدى الناشئة حتى يمكن أن يميزوا ما بين ما هو جميل وما هو قبيح، فإن تمكنت المناهج الدراسية من أن تنمي هذه الثقافة وهذه النوعية من السلوكيات في الطفل فإنه حتمًا سيرفض أي نوع من أنواع التلوث الذي يمكن مشاهدته في البيئة.
فالطفل – مثلاً – عندما يجد أن رمي المخلفات من نافذة السيارة قبح فإنه حينما يكبر ويصبح أبًا أو مدير مصنع أو مؤسسة فإنه نفسه – حتمًا – تأنف أن يقوم بتلويث البيئة أو استهلاك مواردها بطريقة غير مستدامة، وهذا هو الجانب الإنساني في المحافظة على البيئة.
والعكس أيضًا يحدث، فالطفل الذي يعيش ويحس بأن الجمال هو المحافظة على الأشجار والشجيرات وبقية الكائنات الحية التي يمكن أن يقوم بتربيتها وإطعامها فإنه – وعندما يكبر – لن يكن عنصرًا سلبيًا في البيئة التي يعيش فيها، بل حتمًا سيكون عنصرًا إيجابيًا محافظًا على البيئة وعناصرها وكائناتها.
ونحن اليوم نعرف أن هذا علم قائم بذاته يسمى «علم الجمال»، فماذا يمكن أن يحدث إن حاول المشتغلون في حقل التوعية والتعليم البيئي بدمج هذه الفروع من العلم معًا، ترى كيف يمكن أن يكون الجيل القادم ؟
معظم البرامج والأنظمة التي تسير عليها المؤسسات سواء الحكومية أو الأهلية في مجال التوعية بالبيئة لا تتعدى الأوامر والنواهي، لا تلوث البيئة، لا ترمي بالمخلفات من السيارة، اقتصد من استهلاك الماء، لا تفرط في استهلاك الكهرباء، فهل حاولنا يومًا أن نشعر الإنسان بأن ما يقوم به من تلويث للبيئة وإفراط في الموارد وإخلال بالتوازن البيئي هو في الحقيقة أوجاع وآلام تصيب الأم أو الأب؟ هل حاولنا أن نعمل ترابط ما بين البيئة والطبيعة وحياتنا وأمراضنا وآلامنا وأوجاعنا؟ هل يمكننا أن نصل بالإنسان إلى أن يشعر بأنه مربوط بهذه البيئة، وينعكس عليه آلامها وأوجاعها؟ فإن تألمت وبكت فإن جزءا منه يتألم، وإن صرخت تستغيث فإن أطرافه تتخدر!
أيها السادة، أيها المربون، أيها البيئيون، إن البيئة والإنسان وجهان لعملة واحدة، فنحن ندعو للمحافظة على البيئة حتى نحافظ على الإنسان، وإن حافظنا على الإنسان فإننا في الحقيقة نحافظ على البيئة، فأي جزء من هذه المعادلة لا نفهمه؟
لذلك أقول، كما كنت دائمًا أقول، إنه يجب أن تربط برامج التوعية والتثقيف البيئي بالجوانب الإنسانية أكثر منها من أن ترتبط بالجوانب العلمية فقط، فإن كنا نريد – فعلاً – أن نربي جيلاً من المحبين للبيئة المحافظين عليها فإنه يجب أن نربي فيهم حب البيئة والاستشعار بها، وذلك من خلال خليط من البرامج العلمية والبيئية والإنسانية.

السبت، 1 نوفمبر 2014

الهجرة العظيمة والتخطيط النبوي

 

 تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :٢ نوفمبر ٢٠١٤

بقلم: د. زكريا خنجي

ربما لا نعلم تحديدًا في أي ساعة قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخطط للهجرة إلى المدينة المنورة، ولكننا نعلم أن الرسول الأعظم كان يبحث للمسلمين عن دار يمكنها أن تؤويهم حتى يخفف عنهم عذابات المشركين، ونعلم أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم كان يحادث القبائل في مواسم الحج، وخاصة بعد عودته من الطائف ويدعوهم إلى الإسلام، وكانت القبائل تجد نفسها مجبرة على عدم الإصغاء إليه ليس بسبب عدم قناعة ولكن -في الكثير من الأحيان- بسبب خوفها من قريش، حتى جاء ذلك الموسم الذي استمع فيه رهط من الخزرج لحديث رسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم، فصدقوا وآمنوا بكلامه، وذلك لأن المدينة المنورة كانت مهيأة لاستقبال الإسلام والثقافة والفكر الإسلامي بسبب ما بثه اليهود الذين كانوا يقولون للعرب «إن نبيًا مبعوثا الآن قد أطل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم».
كان هذا التحريض اليهودي السلبي هو أحد الأسباب الإيجابية الذي أدخل الإسلام بسهولة إلى المدينة المنورة.
هل خطط رسول الله صلى الله عليه وسلم، في تلك اللحظة وبعد مقابلة هؤلاء الأفراد أن المدينة المنورة ستكون مقر إقامته وهجرته؟ لا نعلم.
ولكن الذي نعلمه أنه في العام الذي تلا ذلك، جاء اثنا عشر من الأنصار لملاقاته صلى الله عليه وسلم، وبايعوه بيعة العقبة الأولى، وعندما انتهى الموسم بعث معهم الصحابي الجليل مصعب بن عمير رضي الله عنه، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين، لذلك نعتقد أن بيعة العقبة الأولى كانت الانطلاقة الحقيقية التي بدأ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطط لتهيئة المدينة المنورة لتكون مدينة الإسلام، وربما كان ذلك واضحًا في بيعة العقبة الثانية -في السنة التي تلتها- وذلك من خلال حديث العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه، وكذلك حديثه صلى الله عليه وسلم حينما قال للأنصار «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» فرد عليه البراء بن معرور «نعم، والذي بعثك بالحق نبيًا، لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا» [والأزر هم النساء والأنفس].
وحتى يستجلي أبو الهيثم بن التيهان هذا الأمر قال: «يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها -يعني اليهود- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟».
يقول الراوي؛ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم» [بمعنى؛ إن من طلب دمكم فقد طلب دمي، وإن من أهدر دمكم فقد أهدر دمي، أما الهدم فتعني؛ أقبر حيث تقبرون وأنزل حيث تنزلون].
ومن ذلك يمكن أن نستنتج أن رسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم بدأ يضع الخطوات واللبنة الأولى للتخطيط للهجرة التي سوف تغير مجرى التاريخ. فماذا وكيف خطط؟
تتجلى قدرة النبي صلى الله عليه وسلم في الإدارة والقيادة في الكثير من مواقع حياته، ومنها قدرته صلى الله عليه وسلم في إدارة والتنظيم والتخطيط للهجرة العظيمة.
ففي الهجرة النبوية الشريفة لم يكن صلى الله عليه وسلم إداريًا فحسب وإنما كان قائدًا يدير دفة العملية بإحكام وإتقان، فإن كانت وظائف الإدارة -كما يشير إليها علماء الإدارة- خمسًا؛ وهي: التخطيط، والتنظيم، والتوظيف، والتوجيه، والرقابة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلط تلك الوظائف بقدرته على القيادة ليجعل منها أذكى مخطط يمكن التفكير فيه أو اكتشافه.
وحتى نكون أكثر وضوحًا فإن القيادة تعني القدرة على التأثير في الناس وتوجيههم وتحفيزهم للقيام بأمر ما يوصل لتحقيق وإنجاز الأهداف. ويقول خبراء الإدارة إن القيادة تعد من أهم العناصر التي يجب توافرها في الشخص الإداري، لتكون سببًا في تحقيق الأهداف بأعلى درجات الكفاءة والفاعلية، ويعد التوجيه هو جوهر عملية القيادة.
ويمكننا أن نجزم بإن خطة الهجرة لم تكن وليدة اللحظة التي أمر فيها سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة، ولكن من الواضح أنه تم التخطيط لها فترة زمنية معينة، ربما لا نعرفها ولكن الأحداث التي جرت عليها الهجرة تشير إلى أنها لم تكن عشوائية أو وليدة اللحظة، فإن كانت قريش قد خططت بطريقة ذكية للقضاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يتفرق دمه على القبائل فلا تستطيع بني هاشم إلا أن تقبل الدية في دمه الشريف، فكيف بحامل النبوة والمتصل بالذات الإلهية فهل يجعلها عشوائية من غير تفكير ؟ فماذا وكيف خطط رسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم؟
• فريق العمل؛ في البداية قام الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بتشكيل فريق عمل مكون من أبي بكر الصديق وأهل بيته وعلي بن أبي طالب رضوان الله عنهم أجمعين، ويمكن أن يلاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بخليط من الرجال ذوي الأعمار المختلفة، بينهم شيخ كبير يقرب من عمر الرسول نفسه وهو الصديق، وكذلك بعض الشباب وامرأة، وفي هذا الموضوع قضية كبيرة لا نريد مناقشها هنا في هذا المقال.
قام فريق العمل بتنفيذ الجزء الأكبر من المخطط الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في فراشه صلى الله عليه وسلم، ولم تكن تلك وظيفته فحسب وإنما كلف من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعادة الأمانات والودائع التي كانت بحوزته صلى الله عليه وسلم إلى أصحابها بعد مغادرته أرض مكة.
استعد أبو بكر الصديق وقام بتجهيز وسيلة النقل التي ستنقلهم من مكة إلى المدينة، وكذلك قام بتوفير المبالغ اللازمة للرحلة.
وظيفة عبدالله بن أبي بكر أن يستمع الأخبار ويختلط بالناس وفي نهاية اليوم ينقلها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وظيفة ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر الصديق أن تجلب الماء والطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار.
وظيفة عامر بن فهيرة -مولى أبي بكر- أن يرعى الغنم والتي من ضمنها غنم أبي بكر الصديق على الطريق الذي يسلكه عبدالله وأسماء أبناء الصديق ليخفي آثارهما ويخلطها بآثار الأغنام، بالإضافة إلى تزويد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه بالحليب وربما باللحم والغذاء.
وظيفة عبدالله بن الأرقط -وكان مشركا- أن يقودهما إلى المدينة المنورة بطريق غير مأهول، ولا تسلكه العرب عادة.
• الخروج في الوقت غير المعتاد؛ ويمكن الملاحظة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في وقت لم يعتد الناس أن يروه فيه خارج منزله، تقول عائشة رضي الله عنها: «كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة والخروج من مكة من بين ظهراني قومه، أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها».
• استخدام الطرق الخلفية وغير المعتادة؛ اعتاد العرب أن يسلكوا طريقًا محددًا حينما يريدون أن ينتقلوا ما بين مكة والمدينة وبالعكس، لذلك فإنه صلى الله عليه وسلم لم يسلك ذلك الطريق، وإنما استعان بمرشد ليأخذه في طريق غير مأهول ولا تسلكه العرب عادة.
• المبيت والاختباء ثلاثة أيام؛ لم يرحل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مغادرته مكة إلى المدينة مباشرة، وإنما ظل في الغار والمنطقة المحيطة بالغار مدة ثلاثة أيام، وذلك حتى تهدأ نفوس أهل مكة وتهدأ المطاردة في هذه المنطقة، وعندما علم أن أهل مكة يئسوا من البحث في هذه المنطقة وولوا وجوههم في اتجاه آخر خرج متوجهًا إلى المدينة.

ويمكن الملاحظة أيضًا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستغل فريق العمل سواء في مالهم وجهدهم، وإنما دفع ثمن كل شيء، فقد روى ابن هشام في سيرته أنه قال: «فلما قرب أبو بكر رضي الله عنه الراحلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم له أفضلهما، ثم قال: اركب، فداك أبي وأمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أركب بعيرًا ليس لي. قال: فهي لك يا رسول الله، بأبي أنت وأمي. قال: لا، ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به؟ قال: كذا وكذا. قال: قد أخذتها به. قال: هما لك يا رسول الله».
وكذلك عندما بلغوا خيمة أم معبد التي سألوها شراء شيء يأكلونه، ولم يكن عندها شيء، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم شاة لها هزيلة، فاستأذنها في حلبها، فلم تمانع، فوضع يده على ظهرها وسمى الله ثم دعا بالبركة، فامتلأ ضرعها لبنًا، فسقاها حتى رويت وسقى أصحابه حتى رووا وشرب آخرهم صلى الله عليه وسلم، ثم أراضوا ثم حلب فيها ثانيًا بعد بدء حتى ملأ الإناء ثم غادره عندها ثم بايعها وارتحلوا عنها.

إذن باختصار يمكن الملاحظة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مارس كل الوظائف الإدارية التي تكلم عنها علماء الإدارة، من أجل الهجرة من مكة إلى المدنية، فهو صلى الله عليه وسلم قام بعملية التخطيط للهجرة، وقام بتنظيمها، ووظف فريق عمل ليقوم بالتنفيذ، ومن الطبيعي أنه قام بتوجيه الفريق حتى تتم العملية على أكمل وجه، وأخيرًا راقب تنفيذ العملية حتى لا تفشل، بالإضافة إلى أنه كان القائد الذي يدير العملية كلها، حتى بلغوا المدينة المنورة بسلام.
ولكن يبقى سؤال؛ ألم يكن أسهل للنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه وفريق العمل أن ينقله الله تعالى كما أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بلمح البصر؟ لماذا كل هذا التخطيط وهذا الجهد وهذا الزمن الذي استغرق في هذه الرحلة؟
سؤال أتمنى أن تجيبوا عليه أنتم.