السبت، 1 نوفمبر 2014

الهجرة العظيمة والتخطيط النبوي

 

 تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :٢ نوفمبر ٢٠١٤

بقلم: د. زكريا خنجي

ربما لا نعلم تحديدًا في أي ساعة قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخطط للهجرة إلى المدينة المنورة، ولكننا نعلم أن الرسول الأعظم كان يبحث للمسلمين عن دار يمكنها أن تؤويهم حتى يخفف عنهم عذابات المشركين، ونعلم أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم كان يحادث القبائل في مواسم الحج، وخاصة بعد عودته من الطائف ويدعوهم إلى الإسلام، وكانت القبائل تجد نفسها مجبرة على عدم الإصغاء إليه ليس بسبب عدم قناعة ولكن -في الكثير من الأحيان- بسبب خوفها من قريش، حتى جاء ذلك الموسم الذي استمع فيه رهط من الخزرج لحديث رسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم، فصدقوا وآمنوا بكلامه، وذلك لأن المدينة المنورة كانت مهيأة لاستقبال الإسلام والثقافة والفكر الإسلامي بسبب ما بثه اليهود الذين كانوا يقولون للعرب «إن نبيًا مبعوثا الآن قد أطل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم».
كان هذا التحريض اليهودي السلبي هو أحد الأسباب الإيجابية الذي أدخل الإسلام بسهولة إلى المدينة المنورة.
هل خطط رسول الله صلى الله عليه وسلم، في تلك اللحظة وبعد مقابلة هؤلاء الأفراد أن المدينة المنورة ستكون مقر إقامته وهجرته؟ لا نعلم.
ولكن الذي نعلمه أنه في العام الذي تلا ذلك، جاء اثنا عشر من الأنصار لملاقاته صلى الله عليه وسلم، وبايعوه بيعة العقبة الأولى، وعندما انتهى الموسم بعث معهم الصحابي الجليل مصعب بن عمير رضي الله عنه، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين، لذلك نعتقد أن بيعة العقبة الأولى كانت الانطلاقة الحقيقية التي بدأ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطط لتهيئة المدينة المنورة لتكون مدينة الإسلام، وربما كان ذلك واضحًا في بيعة العقبة الثانية -في السنة التي تلتها- وذلك من خلال حديث العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه، وكذلك حديثه صلى الله عليه وسلم حينما قال للأنصار «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» فرد عليه البراء بن معرور «نعم، والذي بعثك بالحق نبيًا، لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا» [والأزر هم النساء والأنفس].
وحتى يستجلي أبو الهيثم بن التيهان هذا الأمر قال: «يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها -يعني اليهود- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟».
يقول الراوي؛ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم» [بمعنى؛ إن من طلب دمكم فقد طلب دمي، وإن من أهدر دمكم فقد أهدر دمي، أما الهدم فتعني؛ أقبر حيث تقبرون وأنزل حيث تنزلون].
ومن ذلك يمكن أن نستنتج أن رسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم بدأ يضع الخطوات واللبنة الأولى للتخطيط للهجرة التي سوف تغير مجرى التاريخ. فماذا وكيف خطط؟
تتجلى قدرة النبي صلى الله عليه وسلم في الإدارة والقيادة في الكثير من مواقع حياته، ومنها قدرته صلى الله عليه وسلم في إدارة والتنظيم والتخطيط للهجرة العظيمة.
ففي الهجرة النبوية الشريفة لم يكن صلى الله عليه وسلم إداريًا فحسب وإنما كان قائدًا يدير دفة العملية بإحكام وإتقان، فإن كانت وظائف الإدارة -كما يشير إليها علماء الإدارة- خمسًا؛ وهي: التخطيط، والتنظيم، والتوظيف، والتوجيه، والرقابة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلط تلك الوظائف بقدرته على القيادة ليجعل منها أذكى مخطط يمكن التفكير فيه أو اكتشافه.
وحتى نكون أكثر وضوحًا فإن القيادة تعني القدرة على التأثير في الناس وتوجيههم وتحفيزهم للقيام بأمر ما يوصل لتحقيق وإنجاز الأهداف. ويقول خبراء الإدارة إن القيادة تعد من أهم العناصر التي يجب توافرها في الشخص الإداري، لتكون سببًا في تحقيق الأهداف بأعلى درجات الكفاءة والفاعلية، ويعد التوجيه هو جوهر عملية القيادة.
ويمكننا أن نجزم بإن خطة الهجرة لم تكن وليدة اللحظة التي أمر فيها سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة، ولكن من الواضح أنه تم التخطيط لها فترة زمنية معينة، ربما لا نعرفها ولكن الأحداث التي جرت عليها الهجرة تشير إلى أنها لم تكن عشوائية أو وليدة اللحظة، فإن كانت قريش قد خططت بطريقة ذكية للقضاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يتفرق دمه على القبائل فلا تستطيع بني هاشم إلا أن تقبل الدية في دمه الشريف، فكيف بحامل النبوة والمتصل بالذات الإلهية فهل يجعلها عشوائية من غير تفكير ؟ فماذا وكيف خطط رسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم؟
• فريق العمل؛ في البداية قام الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بتشكيل فريق عمل مكون من أبي بكر الصديق وأهل بيته وعلي بن أبي طالب رضوان الله عنهم أجمعين، ويمكن أن يلاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بخليط من الرجال ذوي الأعمار المختلفة، بينهم شيخ كبير يقرب من عمر الرسول نفسه وهو الصديق، وكذلك بعض الشباب وامرأة، وفي هذا الموضوع قضية كبيرة لا نريد مناقشها هنا في هذا المقال.
قام فريق العمل بتنفيذ الجزء الأكبر من المخطط الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في فراشه صلى الله عليه وسلم، ولم تكن تلك وظيفته فحسب وإنما كلف من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعادة الأمانات والودائع التي كانت بحوزته صلى الله عليه وسلم إلى أصحابها بعد مغادرته أرض مكة.
استعد أبو بكر الصديق وقام بتجهيز وسيلة النقل التي ستنقلهم من مكة إلى المدينة، وكذلك قام بتوفير المبالغ اللازمة للرحلة.
وظيفة عبدالله بن أبي بكر أن يستمع الأخبار ويختلط بالناس وفي نهاية اليوم ينقلها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وظيفة ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر الصديق أن تجلب الماء والطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار.
وظيفة عامر بن فهيرة -مولى أبي بكر- أن يرعى الغنم والتي من ضمنها غنم أبي بكر الصديق على الطريق الذي يسلكه عبدالله وأسماء أبناء الصديق ليخفي آثارهما ويخلطها بآثار الأغنام، بالإضافة إلى تزويد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه بالحليب وربما باللحم والغذاء.
وظيفة عبدالله بن الأرقط -وكان مشركا- أن يقودهما إلى المدينة المنورة بطريق غير مأهول، ولا تسلكه العرب عادة.
• الخروج في الوقت غير المعتاد؛ ويمكن الملاحظة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في وقت لم يعتد الناس أن يروه فيه خارج منزله، تقول عائشة رضي الله عنها: «كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة والخروج من مكة من بين ظهراني قومه، أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها».
• استخدام الطرق الخلفية وغير المعتادة؛ اعتاد العرب أن يسلكوا طريقًا محددًا حينما يريدون أن ينتقلوا ما بين مكة والمدينة وبالعكس، لذلك فإنه صلى الله عليه وسلم لم يسلك ذلك الطريق، وإنما استعان بمرشد ليأخذه في طريق غير مأهول ولا تسلكه العرب عادة.
• المبيت والاختباء ثلاثة أيام؛ لم يرحل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مغادرته مكة إلى المدينة مباشرة، وإنما ظل في الغار والمنطقة المحيطة بالغار مدة ثلاثة أيام، وذلك حتى تهدأ نفوس أهل مكة وتهدأ المطاردة في هذه المنطقة، وعندما علم أن أهل مكة يئسوا من البحث في هذه المنطقة وولوا وجوههم في اتجاه آخر خرج متوجهًا إلى المدينة.

ويمكن الملاحظة أيضًا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستغل فريق العمل سواء في مالهم وجهدهم، وإنما دفع ثمن كل شيء، فقد روى ابن هشام في سيرته أنه قال: «فلما قرب أبو بكر رضي الله عنه الراحلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم له أفضلهما، ثم قال: اركب، فداك أبي وأمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أركب بعيرًا ليس لي. قال: فهي لك يا رسول الله، بأبي أنت وأمي. قال: لا، ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به؟ قال: كذا وكذا. قال: قد أخذتها به. قال: هما لك يا رسول الله».
وكذلك عندما بلغوا خيمة أم معبد التي سألوها شراء شيء يأكلونه، ولم يكن عندها شيء، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم شاة لها هزيلة، فاستأذنها في حلبها، فلم تمانع، فوضع يده على ظهرها وسمى الله ثم دعا بالبركة، فامتلأ ضرعها لبنًا، فسقاها حتى رويت وسقى أصحابه حتى رووا وشرب آخرهم صلى الله عليه وسلم، ثم أراضوا ثم حلب فيها ثانيًا بعد بدء حتى ملأ الإناء ثم غادره عندها ثم بايعها وارتحلوا عنها.

إذن باختصار يمكن الملاحظة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مارس كل الوظائف الإدارية التي تكلم عنها علماء الإدارة، من أجل الهجرة من مكة إلى المدنية، فهو صلى الله عليه وسلم قام بعملية التخطيط للهجرة، وقام بتنظيمها، ووظف فريق عمل ليقوم بالتنفيذ، ومن الطبيعي أنه قام بتوجيه الفريق حتى تتم العملية على أكمل وجه، وأخيرًا راقب تنفيذ العملية حتى لا تفشل، بالإضافة إلى أنه كان القائد الذي يدير العملية كلها، حتى بلغوا المدينة المنورة بسلام.
ولكن يبقى سؤال؛ ألم يكن أسهل للنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه وفريق العمل أن ينقله الله تعالى كما أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بلمح البصر؟ لماذا كل هذا التخطيط وهذا الجهد وهذا الزمن الذي استغرق في هذه الرحلة؟
سؤال أتمنى أن تجيبوا عليه أنتم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق