السبت، 29 نوفمبر 2014

طفلٌ يفكر

 

 تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :٣٠ نوفمبر ٢٠١٤

بقلم: د. زكريا خنجي

عملية التفكير لدى الإنسان لا تحدث بصورة اعتباطية أو بصورة وقتيه أو ساذجة، وإنما هي من المرجح تربية طويلة المدى تبدأ منذ لحظات الطفولة المبكرة، لتكسب الإنسان إنسانيته، ويتميز بها على أقرانه من المخلوقات الأخرى، وذلك لأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يفكر أما بقية الكائنات فهي تعيش على فطرتها وعلى ما جبلها الله عليه، لذلك نعتقد أنه كلما ارتقى الإنسان في قدرته على التفكير ابتعد كثيرًا عن البهيمية التي تعيش فيها بقية الكائنات الحية.
والتفكير – كما تشير العديد من التعريفات – أنها عملية ذهنية، يتفاعل فيها الإدراك الحسي مع الخبرة والذكاء لتحقيق هدف ما، ويحصل بدوافع وفي غياب الموانع.
فأما الإدراك الحسي فهو الإحساس بالواقع والانتباه إليه، وأما الخبرة فهي ما اكتسبه الإنسان من معلومات عن الواقع، ومعايشته له، وما اكتسبه من أدوات التفكير وأساليبه، فيقوم بتنظيمها وتسجيلها، وتخزينها، وبالتالي يقوم بدمجها في مخزونه المعرفي، ويعيد استخدامها بطريقة أو بأخرى عندما يحتاج إليها، وأما الذكاء فهو عبارة عن القدرات الذهنية الأساسية التي يتمتع بها الناس بدرجات متفاوتة. ويعتقد أن التفكير يحتاج إلى دافع يدفع الإنسان إلى ممارسته، وكذلك لابد من إزالة العقبات التي تصده وتجنب الوقوع في أخطائه بنفسية مؤهلة ومهيأة للقيام به.
وإن كان التفكير أمر مألوف لدى الناس لأن الكثير منهم يمارسه، إلا أنه من أكثر المفاهيم غموضًا وأشدِّها استعصاءً على التعريف، ولعلَّ مردَّ ذلك إلى أن التفكير لا يقتصر أمرُه على مجرد فهم الآلية التي يحصل بها، بل هو عملية معقدة متعددة الخطوات، تتداخل فيها عوامل كثيرة تتأثر بها وتؤثر فيها، فهو نشاط يحصل في الدماغ بعد الإحساس بواقع معين، مما يؤدي إلى تفاعلٍ ذهني ما بين قدُرات الذكاء وهذا الإحساس والخبرات الموجودة لدى الشخص المفكر، ويحصل ذلك بناءً على دافع لتحقيق هدف معين بعيدًا عن تأثير المعوقات.
وربما من أهم أهداف التفكير لدى الإنسان، هو: الفهم والاستيعاب، واتخاذ القرار، والتخطيط، وحل المشكلات، والحكم على الأشياء، والإحساس بالبهجة والاستمتاع، والتخيل، والانغماس في أحلام اليقظة.
وهذه الأهداف لا تتحقق بصورة اعتباطية مرتجلة، وإنما تحتاج إلى مخزون معرفي يقوم على أركان وشروط، وتدفعها دوافع ومثيرات، وتقف في طريقها العقبات. إلا أنها في النهاية عملية واعية يقوم بها الفرد عن وعي وإدراك، ولا تتم بمعزل عن البيئة المحيطة، أي أن عملية التفكير تتأثر بالسياق الاجتماعي والسياق الثقافي الذي تتم فيه.
وهذا يعني أننا لو تمكنا أن نُعلم عقل الطفل ليقوم بإعادة نمذجة العالم الذي يعيش فيه حسب قدراته الذهنية، وجعلنا عقله أكثر فعالية في تحقيق أهدافه وخططه ورغباته وغاياته، وتطوير الخيال لديه ومعرفة المصطلحات، والإسهام في عملية حل المشكلات، والاستنتاج واتخاذ القرارات، نكون قد علمنا الطفل مهارة التفكير.
ولكن هل التفكير كمهارة يمكن أن يتعلمها الطفل؟ وإن كانت كذلك، كيف؟
نحن نؤمن أن التفكير مهارة شأنها شأن أي مهارة أخرى يمكن اكتسابها وتعلمها واستمرار تعلمها وذلك بتشغيل الدماغ بفعالية دائمة، وإن كان البعض يشكك في ذلك، ولكننا نميل إلى أن التفكير مهارة يمكن اكتسابها وربما ما يؤكد هذا التوجه هو ما تقوم به الكثير من المعاهد المتخصصة والمؤسسات التعليمية من تطبيق ذلك فعلاً على أرض الواقع، وفي أماكن مختلفة من العالم وذلك بإدخال مهارة التفكير ضمن المناهج لاتخاذه سبيلا للتحصيل المعرفي وإنتاج الأفكار.
حسنٌ، إن كان التفكير مهارة، فكيف يمكننا أن ننمي هذه المهارات لدى الطفل ؟
إن عملية تنمية مهارات التفكير – وخاصة لدى الأطفال – ليست من السهولة بمكان، فهي تحتاج إلى منهجية واضحة وآلية محددة يمكن أن يتبعها الوالدان والمعلمون حتى يساهموا بصورة أو بأخرى في تنمية نمطية التفكير لدى الطفل، ولكن بأي حال من الأحوال هذه المنهجية وهذه الآلية يمكن أن نطلق عليها مصطلح «إدارة التفكير».
وإدارة التفكير؛ ليست إدارة بالمعنى الصحيح وإنما هي منهجية موضوعية منظمة للتفكير أو لتنمية مهارات التفكير لدى الإنسان، وهنا – ونقصد فيما يخص الأطفال – يمكن تقسيمها إلى ثلاثة جوانب مختلفة إن كانت متداخلة ومترابطة بعض الشيء، حيث إننا نتحدث عن الجانب الخاص بالوالدين، الجانب الخاص بتنمية المهارات المختلفة، والجانب المرتبط بالتدريب والتعليم.
أولاً: الجانب الخاص بالوالدين: في إدارة التفكير وعندما نتحدث عن الوالدين فإننا نتحدث عن الأب والأم، وليس أحدهما إذ أن تعليم الأطفال وتنمية مهارات التفكير لديهم يحتاج إلى الوالدين وليس أحدهما، وكأن الآخر يتفرج ولا تعنيه الأمور، لذلك فإن على الوالدين:
1- أن يكونوا ملمين بأنواع وسبل التفكير المختلفة، مثل: طريقة سكامبر، استمطار الأفكار، التفكير خارج الصندوق وما إلى ذلك.
2- أن يكونوا ملمين ولو بصورة جزئية ببعض مبادئ علم نفس الذكاء والأنواع المختلفة للذكاء، وربما اختبارات الذكاء.
3- أن يكونوا ملمين بأساسيات التربية المختلفة، وخاصة التربية بالحب.
4- أن يكونوا ملمين بأساسيات التعليم المختلفة، مثل التعليم باللعب.
5- أن يكونوا ملمين بلغة الجسم وتعابيره.
ونحن إذ نقول ذلك فإننا لا نحتاج إلى والدين خريجي معاهد تربية وعلم النفس، وإنما نحتاج إلى والدين يرغبان في تنمية مهارات التفكير لدى أبنائهم، بالحب، وليس بالعنف ولا بالإكراه، نريد من الوالدين أن يصغوا «وأكرر أن يصغوا» لأبنائهم لا أن ينهروهم، وأن يحاوروهم لا أن يعنفونهم، نريد أن نبني الحب أولاً في المنازل، وبالتالي الهدوء وراحة البال، فإن توفر ذلك فإنه يمكن أن ننتقل إلى الجانب الآخر.
ثانيًا: تنمية المهارات المختلفة: نجد أنفسنا في إدارة التفكير أمام ثلاثة مهارات تحتاج إلى تنمية، وهي:
أ‌- مهارات الإعداد النفسي والتربوي.
ب‌- المهارات المتعلقة بالإدراك الحسي.
ت‌- مهارات متعلقة بالمعلومات والخبرة.
لنتطرق إلى هذه النقاط بشيء من التفصيل.

أ- مهارات الإعداد النفسي والتربوي، حيث تتمثل في:
1- أن نثير رغبة الطفل في الموضوع، ونثير حب الاستطلاع لديه ونثير التساؤلات وحب التعمق في الموضوع.
2- أن نزرع ثقته بنفسه وقدرتها على التفكير والوصول إلى النتائج.
3- أن ننمي العزم والتصميم، والتي يمكن أن تتمثل في السعي لهدف؛ وتحديد الوجهة وطريقة العمل والمتابعة الدؤوبة الذاتية لذلك؛ والحرص على الوصول إلى النتائج المفيدة.
4- المرونة والانفتاح الذهني وحب التغيير: أن يقر الطفل بالجهل إن لزم؛ ويستمع إلى وجهة نظر الآخرين ويستشيرهم، فالأطفال جبلوا على العناد لذلك يجب أن نعودهم على الاستعداد للعدول عن وجهة نظرهم إن لزم الأمر؛ وربما التريُّث في استخلاص النتائج.
5- سهولة التواصل مع الآخرين والانسجام الفكري معهم، وخاصة إن دعت الظروف للعمل بأسلوب الفرق الجماعية، وخاصة في طرح الأفكار وإجراء الحوار وتقبل الآراء الأخرى التي ربما تناقض رأيه هو.

ب ‌- المهارات المتعلقة بالإدراك الحسي والذاكرة فيمكن تلخيصها كالتالي:
1- توجيه حواس الطفل حسب الهدف والخلفية العلمية أو الفكرية، وهذا يعني أن يتمرس الطفل على توجيه انتباهه نحو الهدف المراد الوصول إلى تحقيقه.
2- تعليم الطفل الاستماع الواعي والملاحظة الدقيقة وربط ذلك مع الخبرة الذاتية، أي تمحيص الاحساسات والتأكد من خلوها من الوهم والتخيلات.
3- توسيع نطاق الإدراك الحسي وذلك بالنظر إلى الأمر من عدة اتجاهات ومن عدة زوايا.
4- تعليم الطفل كيفية تخزين المعلومات وتذكرها بطريقة منظمة واستكشافية؛ وذلك بإثارة التساؤلات، استكشاف الأنماط، استخدام الأمارات الدالة والأشياء المميزة، واللجوء إلى القواعد التي تسهل تذكر الأشياء، ومناقشة الآخرين والتحدث معهم علهم يثيرون فيه ما يؤدي إلى التذكر.

ت‌- أما المهارات المتعلقة بالواقع والمعلومات فهي كالتالي:
1- على الطفل أن يتعلم إعادة ترتيب المعلومات المتوفرة: التركيب، التصنيف، اتباع المنهج الملائم لذلك.
2- على الطفل أن يتعلم طرق جمع المعلومات واستخراجها من مصادرها، السؤال عنها، البحث التجريبي.
3- على الطفل أن يتعلم تمثيل المعلومات بصورة ملائمة كوضعها في جدول أو رسم بياني أو مخطط أو صورة.
4- أن نساعد الطفل في استكشاف الأنماط والعلاقات فيما بين المعلومات: كترتيبها، وتعاقبها، والسبب والمسبب، والنموذج وما يتعلق بذلك.
5- على الطفل أن يتعلم اكتشاف المعاني وذلك باستخدام الاشتقاق، التلخيص، التخيل للكشف عن المضمون.

ولكن في إدارة التفكير يجب أن نتذكر أنه حتى تنطلق عملية التفكير بصورة مجدية وعملية فلابد من وجود الدوافع، والحوافز المشجعة على القيام بذلك، كالدعم المادي والمعنوي، ولابد من إتاحة الفرصة للطفل من استثمار ما اكتسبه من مهارات بالممارسة والتطبيق في مناحي مختلفة.

ويظل الموضوع معلقا، حتى نستكمل الطرق العملية التي يمكن ممارستها في تنمية التفكير لدى الأطفال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق