السبت، 27 ديسمبر 2014

طفلي تربية الخادمة

 

تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :٢٨ ديسمبر ٢٠١٤

بقلم: د. زكريا خنجي

لديها دكتوراه في علم التربية، وكانت نشطة إلى حد كبير، وكانت تقف دائمًا أمام الكاميرات وفي المحاضرات لتعلم الناس والمشاهدين فن تربية الأطفال، والأسس العلمية لتربية النشء، والكيفية الصحيحة لتخطي مشاكل الطفولة والمراهقة وما إلى ذلك من موضوعات تتعلق بالتربية المثالية للطفل.
كانت عندما تعود إلى البيت - وهي مرهقة، فهي تعمل في الجامعة الجزء الأكبر من النهار، ثم يتم استضافتها في عدة أيام من الأسبوع سواء في محاضرات مباشرة أو من خلال شاشة التلفزيون - تحاول أن تأخذ قسطًا من الراحة، لذلك فعندما يأتيها طفلها ليلعب معها على السرير فإنها – ومن فرط إرهاقها - تنادي الخادمة لتبعد الطفل لأنها تريد أن تنام.
وبعد ساعة من الزمن تستيقظ، وعندها إما أن تعدّ لمحاضرة أو مقابلة تلفزيونية أو لمحاضرات الجامعة، وإما انها تبدأ بالاستعداد لأداء بعض الواجبات الاجتماعية، والطفل مازال يلعب مع الخادمة، فهي مشغولة.
يأتي المساء، فتقوم الخادمة بإطعام الطفل وتأخذه إلى سريره لينام، وهي تعود إلى المنزل في ساعة متأخرة من المساء يكون فيها الطفل نائما، لذلك تنام هي أيضًا حتى تستعد للغد.
وفي الغد تستيقظ مبكرة لتذهب إلى عملها مبكرة، فليس من اللائق أن تذهب الى الجامعة متأخرة، ترى ماذا سيقول عنها الزملاء وهي متخصصة في التربية؟! وعندما تخرج في الصباح الباكر، يكون الطفل مازال نائمًا.
أما هو، ونقصد الزوج أو الأب، فهو أيضًا دائمًا مشغول، فهو يخرج في الصباح الباكر، يكون الطفل نائما، ولا يعود إلا في المساء، وفي المساء لا يستطيع أن يجلس مع طفله، فهو يحتاج إلى راحة، لذلك فهو يحتاج الى جلسة مع الأصحاب في المقهى وتدخين الشيشة، لذلك فهو لا يعود إلى البيت إلا بعد منتصف الليل.
الصورة تتكرر، ويبقى الطفل بين أحضان الخادمة، يتربى على يدها، تعلمه مما تعلمته هي في بيئتها ومن مجتمعها، تعلمه لغة ما أنزل الله بها من سلطان، فهي ليست العربية أو الإنجليزية أو الهندية أو الفلبينية، وإنما هي خليط عجيب من كل تلك اللغات، لذلك يتشكل طفلنا بطريقة لا يمكن للكلمات أن تصفها.
نشر الدكتور فهد السويدان في عام 2012 دراسة حول موضوع «الخدم والأطفال» جاء فيه:
أكدت الدراسات أن وجود المربية والخادمة يؤثر سلبيًا على النمو اللغوي حيث يكتسب الطفل من خلال المربيات مفردات لغوية ركيكة غير متماسكة والتي تتضح في الكثير من المفردات، فقد أثبتت الدراسات أن هناك نسبة من الأطفال يعانون من عيوب في النطق في ظل وجود الخادمة في المنزل كالثأثأة أو الفأفأة أو التهتهة.
هذا عدا اللغة الداخلية التي قد يتأثر بها الطفل بشكل عام، والتي قد تنشأ باختلاط لغة الخادمة أو المربية بلغة المجتمع أو الأسرة، فيصبح للطفل تناقض بين ما قد يسمعه من الأم في طريقة المعاملة والمحادثة وما قد يسمعه من الخادمة التي تكون غالبًا لغة الخادمة الأصلية مع بعض المفردات المحلية.
كما أثبتت معظم الدراسات أن تأثير الخدم على الإناث من الأطفال لا يقتصر على اللغة فقط ولكن أيضًا أثبتت أن الطفلة قد تصبح خجولة وقليلة الكلام، وتحب الهدوء، وتنفر من الكبار وخصوصًا الغرباء، وقد تؤثر هذه الظاهرة على أسلوبها في المعاملة من حولها من أصدقاء وزملاء وقد تصبح عدوانية. إذ يصبح العدوان وسيلتها لإفراغ شحنات الغضب الكامنة في نفسها، كما بينت دراسات أخرى أن الطفلة قد تصبح عدوانية مع إخوتها فقط، عصبية وعنيدة إذا أرادت شيئًا وصممت عليه ولا بد أن تحصل عليه. لم تتوقف التأثيرات السلبية الناجمة عن الخدم والمربيات على الأطفال.
كما تسهم الخادمات في إكساب الأطفال أنماطًا سلوكية جديدة غير مرغوب فيها؛ نتيجة لاختلاف بيئة الخادمة عن بيئة الطفل، فضلاً عن اكتساب الأطفال لأنماط سلوكية جديدة، قد يكون من غير المسموح أن يعرفها الأطفال في هذه السن المبكرة، ولكن يتعلم الطفل مثل هذه السلوكيات عن طريق احتكاكه بالخادمة.
بالإضافة إلى أن وجود الخادمات بالبيت يشكل عبئًا نفسيًا على الأطفال، حيث يتعرض الطفل لمشكلات نفسية نتيجة غياب الوالدين عنه وعن متطلباته واحتياجاته، بجانب شعور الطفل في كثير من الأحيان بعدم الاطمئنان والشعور بالذنب، فهو يجلس كثيرًا وحده مع الخادمة، وقد تترسب لديه أشياء بالعقل الباطن ويحتفظ بها ولا يخبر والديه عنها. مما يترتب عليه احتمالية تعرض الطفل لانحرافات سلوكية في المستقبل في حالة تراكم الاحباطات والمواقف المؤلمة مع الخادمات. كما قد يتعرض الطفل للإيذاء البدني نتيجة لضرب الخادمة له عند رفض الانصياع لأوامرها.
أما مشكلة تعلق الطفل بالمربية التي تتولى أموره فهو يتعلق بها خلال المرحلة العمرية ما بين 3 و4 سنوات، ومن ثم يكبر ويزداد تعلقه بها، وينتهي عقد الخادمة وتعود من حيث أتت، فتختفي فجأة من حياة الطفل وتأتي خادمة أخرى فيدخل الإحباط في نفس الطفل. أ. هـ.
ونحن هنا لا نستهجن وجود الخدم في مجتمعنا، فوجودهم أصبح واقعا شئنا ذلك أم أبينا، إلا أننا لا نريد أن يفرض علينا هذا الواقع نمطية حياة تجرفنا إلى هوة مجهولة لا نعرف لها قرارا.
فنحن نقدم بلاغا في مركز الشرطة بمجرد أن الخادمة قد سرقت من المنزل خاتما أو مبلغا من المال يقدر ببضع مئات من الدنانير، ولكننا نتجاهل في الوقت نفسه أنها سرقت أطفالنا وأعمارهم وقيمهم.
لخصت دراسة نشرت عام 2005 أضرار ظاهرة الخدم في بعض المجتمعات الخليجية في بعض النقاط التالية:
1- تأثر الأولاد بلغة الخادمة وعاداتها وتقاليدها فأصبحوا مجرد مقلدين لها.
2- تقليد الخادمة في النظافة والطعام والكلام والمشاعر والصلاة.
3- تأثير الخدم والمربيات بشكل مباشر على البناء الأسري والعلاقات بين الزوجين وبروز ظاهرة الخلافات المتصاعدة بين الزوجين بنسبة 60%.
4- التأثير الثقافي المدمر لهوية الصغار والكبار معًا حيث ذكر 25% من الأطفال – من عينة البحث – أن المربية تناقشهم في أمورهم الدينية وبالذات ما يتعلق بالدين الإسلامي ليعايش الصغار مرحلة القلق والاضطراب النفسي نتيجة اختلاف العقائد والمفاهيم، مما يزعزع شعور الإيمان واستقراره العقائدي وانتمائه الى دينه الإسلامي.
5- حرمان الطفل من حنان أمه اللازم في تربيته واستقرار نفسيته، ولا يمكن للخادمة تعويض حنان الأم.
6- ما يحدث من تفسخ أسري من جراء العلاقات المشينة بين صاحب البيت والخادمة، كما أن السائق قد يقوم بدور الوسيط بين الفتيات والشباب العابث وتسهيل الانحراف الخلقي والتستر عليه.
7- إفشاء أسرار البيوت وانتهاك حرماتها عندما تتبادل الأسر الزيارات العائلية ويضطلع الخدم بدورهم عند اختلاطهم ببعضهم البعض.
وفي دراسة أخرى على 500 أسرة خليجية تم رصد العديد من المشاكل المتعلقة بالخدم، أبرزها:
1- إهمال الأعمال المنزلية بنسبة 63%.
2- السرقة بنسبة 29%.
3- إيذاء الأبناء بنسبة 29%.
4- إفشاء أسرار البيوت بنسبة 29%.
5- الهروب بنسبة 26%.
6- مشاكل أخلاقية بنسبة 26%.
وفي دراسة للدكتور عبدالرؤوف الجرداوي نشرت في كتاب بعنوان: «ظاهرة الخدم والمربيات وأبعادها الاجتماعية في الدول الخليجية» توصلت إلى بعض النتائج التالية:
1- وجد أن 97% من الخادمات يلتزمن بطقوس دينية يتم ممارستها بشكل علني على الرغم من معارضتها للعادات الخليجية، وأن 66% من المربيات غير مسلمات.
2- يتم السماح للطفل أقل من 12 سنة بالتدخين بنسبة 11% وشرب الكحوليات بنسبة 7% وتخويف الأطفال من الظلام والحيوانات بنسبة 42%.
3- تناول أطعمة محرفة بنسبة 36% وتناول الخمر بنسبة 43%.

وما ذكر ما هو إلا مقتطفات وجزء من دراسات وما خفي كان أعظم.

وعلى الرغم من ذلك فإننا لا نريد أن نحارب ظاهرة الخدم في دولنا العربية وبالتحديد الخليجية، إلا أننا ندعو – فقط – إلى الحذر عند التعامل مع هذه الفئة من الناس، وخاصة عندما نضع أبناءنا بين أيديهم، وإن كنت أنا شخصيًا من رافضي أن يربي أطفالي خادمة أو مربية، مهما كلفني الأمر، لأن طفلي أغلى ما عندي فكيف أضعه في يد إنسانه لم تلده ولن تشعر به ولم تسمع شهقة أول نفس أطلقه، وأول صرخة بكاء وأول ابتسامة أطلقها؟
كيف ترتضي قلوبنا قبل عقولنا التفريط في أطفالنا حتى يربيهم الخدم؟

السبت، 20 ديسمبر 2014

أنتِ وخادمتك

 

 تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :٢١ ديسمبر ٢٠١٤

بقلم: د. زكريا خنجي

يرد إلى مسامعنا العديد من القصص التي تخص وجود خادمات في المنازل، وتتعدد من جرائم قتل الأطفال وتعذيبهم بأبشع الأساليب وأحطها، إلى بعض المخالفات التي تبلغ الانحطاط الخلقي وبعض المشاكل الصغيرة مثل كسر الأواني والتحف الموجودة في المنزل التي شقت ربة الأسرة حتى تجلبها من بقاع الأرض لتزين منزلها.
ولسنا نريد أن نحكي من تلك القصص والحكايات، فمنازلنا مليئة بها، إلا أنه وعلى الرغم من كل شيء فإن ربة الأسرة لا يمكنها الاستغناء عن الخادمة في المنزل، وخاصة ربات الأسر العاملات، فالخادمات يتحملن مسؤولية المنزل بكل جزئياته، وهن اللاتي يتصرفن في كل صغيرة وكبيرة في المنزل. لذلك فليس من المستغرب أن يتعلق الطفل بأهداب الخادمة في حال رغبتها في السفر أو عندما يعود الطفل من المدرسة، فبالنسبة إليه حضن الخادمة أدفأ من حضن أمه.
ولا نريد أن نتحدث عن حقوق هذه الفئة من الناس، فئة الخدم أو العاملين في منازلنا، فكل المحاضرات والندوات سواء الدينية أو الاجتماعية تتحدث عن حقوقهم وكيف يجب على الأسرة أن تتعامل مع الخادمات في المنزل، وكيف طالب الإسلام بحسن التعامل معهن وما إلى ذلك، إلا أننا نود أن نتكلم عن زاوية أخرى من الموضوع، وهي الزاوية التي تخص الأسرة نفسها، فما حقوق هذه الأسرة التي تجلب هذه الخادمة من أقاصي الأرض وقد دفعت من قوت عيالها حتى تحضرها إلى أرض الوطن، وفجأة وبطرفة عين تختفي هذه الخادمة، تتسرب من المنزل، تسرقها مافيا الخادمات، وتجعلها تعمل في منازل البشر هنا وهناك، وفي نهاية الفترة وربما أكثر من تلك الفترة تقوم بتسليم نفسها للشرطة، لتُطالب أنت وبكل بساطة أن تدفع ثمن تذكرتها ومستحقاتها لتعيدها إلى وطنها! ماذا جنيت أنت وماذا استفدت؟
قال لي صديق: جلبت خادمة، كبيرة في السن نوعًا ما، قد عملت سابقًا في بعض الدول الجارة، وعملت عندي في المنزل، وكانت تتملق ربة الأسرة وأطفالي، وكانت تردد دائمًا أنها مبسوطة ومرتاحة في هذا المنزل، وكأنها لم تعش في سعادة أبدًا إلا يوم أن جاءت إلى منزلي، وفجأة وبعد ثلاثة أشهر ويوم واحد، أي بعد الانتهاء من فترة تأمين مكتب جلب الخدم بيوم واحد، هربت، ولا نعرف كيف؟ الغريب أنها لم تكن تخرج من المنزل إلا مع ربة البيت، وكنا نعتقد أنها لا تملك تليفونا.
هربت وأخذت معها ملابسها وأدواتها وكل مستلزماتها في الفترة الصباحية وأخذت مبلغا من المال، ومن الطبيعي تقدمنا ببلاغ بهروبها، وعملنا كل الإجراءات التي تحفظ حقي، ولكن من يرجع مالي الذي طار مع الخادمة؟
يواصل الصديق ويقول: عدت إلى نفس المكتب، لمحاولة – وأنا أعرف أنها محاولة فاشلة – المطالبة بتعويض إلا أن المكتب رفض لأنها هربت في اليوم التالي الذي ينتهي فيه تاريخ التأمين، فضاع مالي كله.
يقول – ومازال الحديث للصديق – وبعد عدة أشهر فكرت في إحضار خادمة أخرى، فلا يمكن الاستغناء عنهن، وبالفعل دفعنا ما نملك لإحضار الخادمة، أو ما يمكن تسميتها اليوم بالملكة لأننا يجب أن نعاملها كملكة حتى لا تغضب ولا تزعل، لأن حياتنا اليوم أصبحت مقرونة بها. وللأسف بنفس الكيفية هربت، ومشينا في نفس الإجراءات والخطوات، وفي النهاية طارت فلوسي، ولا أحد يعوض، ولا قانون يردك. انتهى.
وآخر يقول: «هربت الخادمة ولجأت إلى سفارتها، ودعمتها سفارتها بكل قوة، وأنا في وطني ولا أحد يدعمني، لا قانون يخدمني كصاحب عمل، وحتى تنظر إلى الحكومة بعين العطف، لماذا؟ ماذا فعلنا؟ أين حقنا؟».
وثالث يقول: أحضرت خادمة مسيحية، وطالبت بالذهاب إلى الكنيسة كل يوم أحد، فقلنا هذا حقها، ولكن تفاجأنا بعد عدة أشهر أنها حامل بجنين وأنها تريد أن تعود إلى موطنها! حسنٌ، وأنا من يعوضني؟
ورابع يقول: خادمتي أسلمت ولبست الحجاب ففرحنا بذلك كثيرًا، ورفعنا أكفنا إلى السماء حمدًا لله وشكرًا، ولكننا تفاجأنا أن أحد المواطنين كان يقابلها عندما تخرج للحظات، وأعطاها تليفون، ليتحدث معها بالليل ونحن نيام، فهربت معه ولا نعرف إلى أين ومع من؟
وخامس يقول: كان أحد القاطنين بجوار منزل – مواطن – يهرب لخادمتي بعض الأكل والحلويات من غير علمي، حتى وقعت في حبه! تصور!
وسادس وسابع وعاشر، قصص وحكايات كلها تشير إلى أن هناك فئة من الناس، لا أعرف كيف أصفهم يحاولون أن يخادعوا هذه الفئة، وللأسف أن هذه الفئة على استعداد للانحراف والسير في طريق غير أخلاقي، وفي المقابل لا توجد عقوبات رادعة في القانون إلا على رب الأسرة أو رب العمل، فهو من يعاقب وكأنه هو من أخطأ في حق العامل أو العاملة الهاربة، حيث عليه أن يدفع لها تذكرة العودة إلى موطنها وكل المصاريف وكل ما يلزم وما لا يلزم.
والأخطر من ذلك كله، إن ذهبت العاملة أو العامل إلى سفارته وقدم بلاغا أنك تضربه أو تعذبه أو تعمل ما لا يمكن أن يعمل، تقف سفارته بكل ما أوتيت من قوة لحماية هذا المواطن وأنت تقف وحيدًا في مهب الريح، لا يوجد لديك غطاء قانوني يحميك ويحمي مالك وممتلكاتك.
ونحن لا نقول إن أصحاب أو أرباب العمل سواء، حيث إننا نقر بأن هناك عددا منهم لا يهتم بحقوق هذه الفئة من البشر، فربما يسكنهم – وخاصة العمال – في مساكن وضيعة لا تليق بحقوق الإنسان، وهناك ربات وأرباب أسر يضربون الخادمة ويهينونهن بدرجة غير إنسانية، إلا أن هناك في المقابل أسرا تكرمهن وتعاملهن بأفضل حالات المعاملة، فكيف يمكن أن تتساوى كل تلك الحالات؟ كيف يمكن للقانون أن يساوي تلك الأسر الظالمة بالأسر غير الظالمة؟ ألا يمكن النظر في مثل هذا الموضوع؟
والغريب، هو أن أقصى عقوبة يمكن أن تقع على العامل الهارب أو الخادمة الهاربة عندما يتم القبض عليها أن يتم تسفيرها إلى موطنها بتذكرة قام المواطن نفسه بشرائها، والأغرب من ذلك أن هذه الخادمة أو هذا العامل يعود إلى البلاد بعد فترة من الزمن بجواز سفر جديد وربما باسم جديد، وربما قام بالاتصال برب عمله السابق لتقديم التحية له ويبشره أنه قد عاد إلى البلاد وهو يعمل الآن عند إنسان آخر.
حسنٌ، وبعد أن تهرب الخادمة من المنزل وتتلقفها أيادي «عصابات مافيا الخادمات» كما تسمى اليوم، ماذا يحدث ؟
من هم هؤلاء أعضاء هذه العصابات؟ هل هم من المواطنين أم أجانب أم هم خليط من هؤلاء وهؤلاء؟ ما نوعيتهم؟ وكيف يتاجرون في البشر؟ ألا يمكن لأجهزة الأمن أن تراقبهم وتعرف كيف يعملون وكيف يتاجرون؟ وكيف يسرقون العاملين والخدم من منازلهم ومن أرباب العمل؟ كيف يتواصلون معهم؟ وأسئلة كثيرة لا نعرف الإجابة عنها، إلا أننا نعرف أن هذه العصابات موجودة شئنا ذلك أم خبئنا رؤوسنا في التراب، ولكننا لا نعرف كيف تتواصل مع الخادمات، ربما عن طريق فلان، وفلان إلى فلان وهكذا حتى يصلوا إلى الخادمة، وهذه لا تحتاج إلى الكثير من الإغراءات، فالكثير منهن مستعدات وربما يتلقين التعليمات في أوطانهن، أو ربما يقوم صاحب المكتب – نقصد المكاتب الموجودة في أوطانهن – بإعطائهن أرقام بعض التليفونات لبعض الأشخاص الموجودين في أوطاننا مع تعليمات بأنها إن لم ترتح في المنزل أو مكان العمل فما عليها إلا أن تتصل بهذا الرقم حتى تأتيها المساعدة في الهروب من المنزل، ربما وأنا في الحقيقة لا أعرف ولكني أخمن.
لا نريد من أحد أن يقول إنه لا توجد مثل هذه العصابات، فإن لم تكن موجودة فأين تذهب الخادمات؟ وأين يسكن؟ وكيف يصلن إلى المسكن؟ وكيف يعملن في البيوت بنظام الساعات؟ ومن أين يأكلن وكيف يشربن؟ وأسئلة تحير العقل.
وهنا نقف حائرين، إن أيقنا بوجود مثل هذه العصابات أم لم نوقن، فإننا نعود ونتساءل: ما الحل الناجع الذي يمكن أن يريح المواطن من مشاكل الخدم والعاملين؟ كيف يمكن أن نحل هذه الإشكاليات وهذه المشاكل؟
من الطبيعي أنه لا توجد حلول سحرية يمكنها ببساطة أن تحل جميع الإشكاليات، ولكن المواطن يريد من الجهات الرسمية – على الأقل – أن تنظر في حقه المادي والمعنوي الذي خسره من جراء تلك الأحداث، يريد أن يعرف كيف يحل كل تلك المشاكل بحيث عندما يجلب خادمة فإنه يطمئن أن هذه الخادمة لن تهرب من منزله إلى منزل آخر، وإن هربت برغبتها ومن غير أن يؤذيها فإنه يمكن أن يسترجع حقه ولو بعيد حين.

وفي الختام نسأل: ألا يمكن أن نفكر في حلول؟ لا بد من وجود حلول، فلكل مشكلة حل.

ملاحظة: وأنا أكتب هذا المقال وبمحض الصدفة، أرسل لي صديق هذه النكتة عن طريق الواتساب، والنكتة تتكلم عن طفل: «عمره 13 سنة ويكتب: مؤلم أن تتعود على شخص ثم تفقده!»، فيرد عليه شخص آخر: «ما عليه حبيبي، الخدامات لازم يروحون يشوفون أهلهم بعد». ونحن نقول واقع مؤلم في الحقيقة ولكنه حقيقة، وموضوع سنتكلم فيه لاحقًا، ونود أن نسمع آراءكم وحكاياتكم حول هذا الموضوع.

السبت، 13 ديسمبر 2014

طفلٌ يحاور ويتقبل الآخر

 

 تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :١٤ ديسمبر ٢٠١٤

بقلم: الدكتور زكريا خنجي

أثناء دراستي الدكتوراه، وفي أثناء واحدة من تلك المحاضرات الممتعة الطويلة، وفي الحقيقة لا أعرف ماذا كان الموضوع، ولكن طرح الدكتور المحاضر هذه القصة، يقول إنه قرأ ذات يوم هذه القصة عن مدير مدرسة، قال: «كان لدينا طالب يزعج الطلبة كثيرًا، ولا يكاد يمر يوم إلا وقد قام بضرب أحد زملائه وسرقة أدواتهم الخاصة وربما وجباتهم الصباحية، وإزعاج شديد لف المدرسة كلها، حتى بلغ الأمر أن أولياء أمور الطلبة الآخرين بدأوا يضجرون من الموضوع، وبدأت تتكدس الشكاوى على هذا الطالب، ولم تكن تلك الشكاوى شكاوى أولياء الأمور فحسب وإنما بلغ الأمر أن المدرسين ضجروا منه وأصبحوا يرفضون دخول الطالب إلى حصصهم الدراسية.
أمامي مشكلة، فما كان مني إلا أن أتصلت بولي أمر الطالب -وهو رجل ذو منصب كبير في الدولة- وطلبت منه الحضور.
وبالفعل في اليوم التالي أتى ولي أمر الطالب، وسمع الموضوع من غير أن يقاطعني، وقلت في نفسي «فعلاً إن الأب مؤدب، كيف يخرج هذا الولد المشاغب من صلب هذا الرجل»، وبعد أن انتهيت من سرد الموضوع والمشكلات التي يسببها ابنه، قال لي: سأهتم أنا بالموضوع، ثم غادر.
يقول المدير: وخلال الأسبوع التالي بدأت أراقب الطالب مراقبة دقيقة، وكلفت عددا من المدرسين -أيضًا- بمراقبته وذلك تحسبًا لأي تغيير في سلوكياته، ولكن ظل الموضوع كما كان، لم يتغير الطالب وكأن الموضوع لم يكن، قلنا ربما التأثيرات تظهر بعد فترة، لذلك استمررنا نراقب الطالب مدة شهر، ولم يحدث أي شيء، ظل الطالب كما هو لا بل ازداد قساوة واستهتارا وازعاجا.
فقلت في نفسي «ماذا أفعل الآن؟ هل أطلب ولي أمر، أم ماذا أفعل؟» احترت، كيف يمكن حل هذه المشكلة؟ وكانت لدي الرغبة الشديدة في الجلوس مع الطالب وسماعه وهو يتحدث ويبرر هذه السلوكيات، ولكن كيف؟ ربما يزيده ذلك عنادًا.
يقول المدير: وأنا في هذا الوضع، سمعت أن الطالب أصيب بالزائدة الدودية وأجريت له عملية جراحية، وهو لم يحضر إلى المدرسة منذ أيام، فقلت في نفسي «فرصة سانحة لزيارته في المستشفى»، وبالفعل؛ أخذت معي باقة ورد وهدية للطالب وذهبت لزيارته في المستشفى، وجلست هناك معه ومع والده، ذلك الرجل المؤدب جدًا، ثم غادرت متمنيًا له السلامة.
وبعد أيام عاد إلى المدرسة وهو بالكاد يمشي ويتحرك، وبعد عدة أيام طلبته في غرفتي، وعندما حضر جلست معه وقدمت له بعض الحلوى، وبدأت بالتدريج أتحدث معه في سلوكياته المزعجة وغير المقبولة من زملائه الطلاب ومن المدرسين، عندئذ بكى الطالب وقال بنوع من البراءة «إن والدي يقول لي ولإخوتي دائمًا إن الناس والبشر مثل الزنبرك، كلما دعست عليهم برجلك فإنهم يبقون تحت رجلك لا يتحركون ويطلبون رضاك، أما إن حركت رجلك فإنهم سيقفزون أمامك وربما يزعجونك، فلا تتركوا لهم الفرصة أبدًا للقفز والتحرك، اجعلوهم دائمًا تحت أرجلكم» وانتهت الحكاية.
هذا الأب - وربما العديد من الآباء - خلق في نفس هذا الطفل الرغبة في استعباد الناس، وعدم قبولهم، ونمى في نفسه أنه أفضلهم وأنه لا يمكن أن يتساوى مع البشر، لذلك تحول سلوك هذا الطالب في المدرسة إلى سلوك شاذ غير مقبول.
إن قبول الآخر والتواصل معه أمر وسلوك الطبيعي، فلا يمكننا أن نعيش ونحيط أنفسنا بكبسولة لنمنع وصول الناس إلينا، فقد خلق الله سبحانه وتعالى سيدنا آدم وخلق معه من يؤنسه وهي أمنا حواء، وذلك لأن الكبسولة التي نصنعها لأنفسنا تمنع عنا الهواء فنختنق ونموت.
والطفل من طبعه أنه عنيد وأناني، ويحب نفسه، ولا يرغب في أن يشاركه أحد سواء في ألعابه أو أي شيء من ممتلكاته، وحتى أفكاره تراه يريد أن يفرضها على الآخرين عندما يلعب معهم، فالذكر يريد أن يقوم هو بدور البطل الذي يقضي على كل الأشرار وهو الذي ينتصر في النهاية، والبنت تريد أن تكون هي الجميلة وهي المرغوبة وهي الثرية وهي كل شيء.
وهذا أمر طبيعي لا يدعو إلى الخوف، وإنما المهم هو كيف نتعامل مع هذه السلوكيات بالكثير من الحذر، وكيف ننمي في أبنائنا تقبل الآخر وإن لم يكن يحبه، وكيف يمكن أن يتحاور مع تلك الأطراف وكيف يمكن أن يتفاهم معهم، حتى يعيش هو أولاً بنفس طيبة وراضية، ومن ثمة يمكننا أن ننشئ جيلا مسالما يعيش في مجتمع هادئ متماسك ينشئ حضارة مستدامة.


1- في البداية – ودائمًا - نبدأ من الوالدين والمجتمع الصغير الذي يحيط بالصغير، هذا المجتمع يجب أن يتبنى منهجية الحوار في تنظيم حياته، وإن اختلفت الآراء، وتعددت الأفكار، يجب أن تبنى تلك الأسرة على هذا المفهوم، فلا يفرض الأب أو الأخ الأكبر آراءه على هذا المجتمع الصغير، حتى في أصغر الأمور، فالجميع يمكن أن يبدي رأيه.


2- لا تقارن الصغير بزملائه أو أقرانه أبدًا، فهو إنسان قائم بذاته، له شخصيته الخاصة، وإنما حاول أن تنمي شخصيته هو، أيًا ما كانت تلك الشخصية، وذلك حتى لا ينمو وهو يعتقد أنه أفضل من الجميع ولا أقل منهم.


3- شاركه معك في اتخاذ بعض القرارات التي تمس المنزل وأفراد المنزل، وإن لم يكن له رأي يمكن أن يجالسكم كأفراد وأنتم تتناقشون في موضوع معين، دعه يشاهدك وأنت تحاور أخوته وأفراد الأسرة، ليعيش ويتعايش هذه الأجواء، وإن لم يرغب في الجلوس معكم حاول أن تفهمه أنها جلسة عائلية ولا تعقد إلا بوجود الجميع.


4- ويفضل أن تكون للأسرة جلسة عائلية - أسبوعية مثلاً - لمناقشة الأمور المتعلقة بالأسرة وأفراد الأسرة، إلا أن هذا لا يمنع أبدًا أن تكون بينك وبين أفراد الأسرة جلسات خاصة لمناقشة بعض الأمور الخاصة التي لا يرغبون في أن يطلع عليها أحد سواك.


5- لا يمنع أن تشتري للطفل الألعاب الإلكترونية أو الفردية، إلا أنه يجب أن يقتني بعض الألعاب التي لا يمكن اللعب بها إلا بصورة جماعية، فاللعب في الألعاب الفردية وخاصة الألعاب الإلكترونية فترات طويلة يولد عنده حب التقوقع والفردية.


6- يفضل أن يتم تسجيل الطفل في الأندية والمراكز العلمية حتى يشترك مع الآخرين في إنجاز بعض الأعمال والأنشطة الجماعية.


7- امنح الطفل بعض الصلاحيات ثم تنحَ جانبًا، وهذا لا ينطبق على المنزل فحسب وإنما حتى في المدرسة والمراكز التعليمية، نعم فوض الطفل القيام ببعض الأعمال، واجعله يعمل مرة كرئيس فريق ومرة أخرى كعضو في فريق، ثم راقبه من بعيد، وراقب سلوكياته وعمله، وحاول أن تدرس كيف يتصرف أثناء عمله كرئيس للفريق وكذلك أثناء كونه عضوا في الفريق، عندئذ يمكننا أن نعرف مدى تقبله للآخرين ومتى ينفر منهم، وفي أي حال من الأحوال لا تعنفه وإنما حاول أن تحاوره وتوضح له ماذا يعني فريق العمل، وكيف يكون جزءا من هذا الفريق.


8- وأنت - كمعلم أو كرب أسرة - لا تنس أبدًا التحفيز والتشجيع، سواء بالكلمة الطيبة أو ببعض المكافآت المادية التي يمكن أن تمنح لأفضل طفل يتعاون مع الآخرين، لأفضل طفل يصغي للآخرين، لأفضل طفل يناقش ويتحاور مع الآخرين، وكذلك يمكن أن تمنح تلك المكافآت للذين يحاولون النمو والتقدم في الانخراط في الفريق.. وهكذا.


9- يجب أن يستشعر الطفل ويتعايش مع مبدأ أن العمل بروح الفريق والتعاون وتقبل الآخرين هو مبدأ إسلامي وإنساني، فعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «يد الله مع الجماعة» رواه البخاري، وقال في الآية 2 من سورة المائدة (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ).


10- يمكن لوزارة التربية والتعليم أن تخصص بالإضافة إلى الجوائز للمتفوقين دراسيًا ومتفوقين أخلاقيًا وما إلى ذلك أن تخصص جوائز ومكافآت لأفضل فريق عامل في المدرسة، أو لأفضل جماعة طلابية، ومثل هذه الجوائز تمنح للفريق كله، وتوضع أسماءهم في لوحات الشرف ويكافأون في الطابور الصباحي وما إلى ذلك.


ونحن هنا عندما نتكلم عن ذلك فإننا لا نعتقد بسهولة هذا الموضوع، ولكن الجزء الأكبر من العبء يقع على ولي الأمر والمعلم، فباستثناء مسئولياتهم كمشرفين للفرق، فإنه سيكون لدورهم كمشرفين للفريق التأثير في شخصيات الأفراد، وذلك لأن تأثيرهم يفوق تأثير أي شخص آخر قابلوه في حياتهم، ويا لها من مسئولية، لذلك عليهم أن يتعاملوا مع الأمر بجدية، وهم بذلك يكونون قدوة لهؤلاء الأطفال، فيمكن تشبيه الصغار بقطعة من الإسفنج فإنها تمتص كل ما تراه.

الخلاصة: هذه العملية ليست من السهولة بمكان إلا أنها ليست مستحيلة، لذلك إن كنا نسعى لمجتمع منتج مستدام فعلينا أن نفكر في أفراده.

السبت، 6 ديسمبر 2014

لنُعلم طفلنا كيف يفكر؟

 

 تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :٧ ديسمبر ٢٠١٤

بقلم: د. زكريا خنجي

تحدثنا في المقال السابق (طفل يفكر) عن إدارة التفكير لدى الطفل والكيفية التي يمكننا من خلالها أن نسهم ولو بجزئية في أن نحفز منظومة التفكير لدى الطفل، وقلنا انه يمكننا التركيز على ثلاثة أمور وهي: الجانب الخاص بالوالدين، وتنمية المهارات المختلفة، واليوم وفي هذا المقال سنحاول أن نأتي بالجانب الثالث.

ثالثًا: الجانب المرتبط بالتدريب والتعليم: وهذا جانب ملحّ، إذا ينقلنا ذلك من المراحل النظرية إلى المرحلة التطبيقية التي يمكن أن تتم بعدة طرق وأساليب، مثل:
1ـ تحديد الهدف: نعلمه أن يحدد هدفه في كل قضية يفكر فيها؛ فلماذا يريد أن يحل تلك المشكلة التي تؤرق حاله؟ لماذا يريد أن يدرس هذا الموضوع؟ ما الهدف من كل الأمور؟ عندئذ يمكنه أن يتساءل كيف يمكنني أن أحل تلك المشكلة حتى أحقق الهدف الذي أريد؟ كيف يمكنني استيعاب ذلك الموضوع؟
2ـ أترك له المجال لطرح الأسئلة: ربما نفاجأ بأن أطفالنا كبروا بسرعة، وأنهم اليوم يطرحون الكثير من الأسئلة التي لا نتوقعها، فيناقشوننا كما يفعل الكبار. فهو يحب أن يعرف كل شيء، ودائمًا يسأل: «لماذا، كيف؟»، فلا يجب أن نتهرب من الإجابة، ولا أن تستهين بعقله، بل يمكننا إخباره بكل شيء بحسب قبوله وفهمه، وبأسلوب بسيط، ومقنع.
3ـ تحدث مع الطفل كثيرًا: إن كنت بصدد إلحاق طفلك بالحضانة، فهيئ عقله، وتكلم معه كثيرًا عن المكان الذي سيذهب إليه، والأطفال الآخرين، وكل ما يتعلق بحياته الجديدة. ولا تصفه – أبدًا – بأنه أفضل من أقرانه، أو الأذكى، بل عندما تمتدحه، امدحه هو من دون مقارنته بالآخرين، حتى لا يشب وهو يشعر بالكبرياء أو التميز عن الآخرين، فيشعر بالغربة، ويبتعد عنه زملاؤه، نتيجة سوء معاملته لهم.
4ـ ناقش الطفل ودعه يناقشك: عندما نخرج لشراء لوازم البيت من السوبرماركت، اشرح لطفلك الغرض من الذهاب والأشياء التي ستشترونها، واجعله يختار معك ويعرف فائدة كل شيء بالنسبة له ولكما، حتى لا يتشبث بكل ما تمتد إليه يداه من دون أن يفهم. وإذا صرخ أو بكى وهو يمسك بلعبة أو قطعة حلوى، فلا تحرجه بألا تشتريها له، بل خذه بهدوء واشرح له أسباب عدم شرائك لها، مثلاً لعدم كفاية المال لديك، أو لوجود مثلها في البيت.. وهكذا.
5ـ لنعلم الطفل اتخاذ القرار وتحمل المسئولية من صغره، مثلاً: عند ارتداء ملابسه، لا تظن أنه لن يفهم في الألوان أو في الموديلات، بل قد تلاحظ أنه يميل الى ارتداء قطعة من ملابسه، أكثر من الباقي، ويفضل حذاء بعينه، ولا يحب ارتداء باقي الأحذية، فهنا يبرز الذوق الخاص للطفل، كما ستلاحظ أن طفلتك على الرغم من صغر سنها تهتم باختيار قطع الحُلي الصغيرة الملونة، التي تضعها في شعرها، أو في يديها، أو في أصابعها، وقد تدهش الأم من سلوك الطفلة لظنها أنها مازالت صغيرة على هذا السلوك.
6ـ الثواب والعقاب: قد يشكو الكثيرون من الآباء من أنهم لا يستطيعون اصطحاب أطفالهم إلى زيارة الأصدقاء أو الأقارب نتيجة سوء سلوكهم، وتصرفاتهم السيئة عند الغرباء، ولكن الأطفال يتصرفون هكذا، نتيجة تهاون الآباء في تعليمهم، وتربيتهم، لذلك يجب أن ننبه الطفل، ما دام باستطاعته الفهم، إلى أن يسلك سلوكًا طيبًا عند الناس، ونشجعه بمكافأة إذا تصرف بشكل جيد، أو بعقابه إذا لم يمتثل لتوجيهاتكما، وحرمانه من نزهة أو شيء يحبه، وذلك حتى يتعلم السلوك اللائق. فالهدية أو المكافأة ليست رشوة، بل هي أسلوب لتقريب وتبسيط الفكرة عند الطفل، لكي يحبها ويتمسك بها، وبالتدريج سيعتاد السلوك الطيب من دون مكافآت.
7ـ المشاركة في حل المشكلات: دع طفلك يشاركك التفكير في حل مشكلة معينة، وبالطبع مشكلة بسيطة، اجعله يشعر بأهميته، وأهمية أن يفكر، فلا يشب منقادًا أو معتمدًا على الآخرين، ليفكروا له، أو بليدًا لا يحب أن يرهق نفسه في التفكير.
8ـ الصبر مع الطفل: نعرف جميعًا أن الطفل لن يفهم ولن يتعلم من المرة الأولى، ولكن كلما تكلمت معه، وشرحت له كل شيء من دون الاستهانة بعقله وفهمه، يستطيع هو أن يتعلم السلوك اللائق، ويتعود أن يفكر ويستخدم عقله، بدلاً من الصراخ والبكاء، ولن يحرجك كلما خرجتما سويًا.
9ـ لنتبادل الأدوار ولنفهم ماذا يريد الطفل: وينصح خبراء علم النفس بأن أسلم طريقة لتوجيه الطفل، وفي الوقت نفسه مساعدتك على الفهم، هي أن تضع نفسك مكانه، حاول أن تفكر بنفس أسلوبه في كل موقف يواجه، فعندما يبكي متشبثًا بك عند ذهابك إلى العمل، فلا تزجره وتعنفه، أو تخرج من البيت خلسة من دون أن يراك، بل فكر في أن تصرفه هذا يدل على أنه يحبك، ويحب أن يكون معك. لذلك فكر أنت بأسلوب الطفل ودورك أن تشرح له المكان الذي ستذهب إليه، وماذا ستفعل، ومتى ستعود، كل هذا بأسلوب بسيط يستوعبه الطفل، ومن الجدير بالذكر أنه قد لا يفهم كل كلامك في المرة الأولى والثانية، ويظل يبكي، ولكنه سيفهم في المرات التالية.
10ـ التجارب العملية: أن ندخل الطفل في بعض التجارب حسب عمره وقدراته ذهنية، فمثلاً: يمكن أن نضع أشياءه الخاصة في غير أماكنها التي يعرفها، وعندما لا يجدها، لاحظ كيف سيتصرف: هل سيبحث عنها بمفرده؟ هل سيسألك عنها مباشرة ليوفر على نفسه العناء؟ هل سيطلب منك أن تشاركه البحث، أم سيغضب لاختفائها، وقد يبكي ويصرخ بدلاً من البحث عنها، وبعد أن يجدها هل سيعيدها مرة أخرى إلى مكانها السابق؟ أم سيرضى عن المكان الجديد؟
11ـ يمكن أن نستخدم أدوات التفكير: وعندما ندخل الطفل في تجارب فإننا يجب أن نقدم له الوسائل المناسبة للتفكير، مثل: الخرائط الذهنية وطرق التفكير المختلفة وطرق استخدامها حتى يتمكن من تنمية قدراته وتنظيم أفكاره.
12ـ ووسائل أخرى: ولنحاول أن ننمي ذاكرة الطفل بالحفظ والقراءة واللعب، أيضًا.
13ـ لنبدأ من البداية: الطفل يخطئ كثيرًا، وعندما يخطئ علينا أن نبدأ معه من البداية، فهو سيخطئ، وسيتصرف على نحو لا يرضيك، وسيتشبث برأيه في أكثر الأحيان، وسيطلب منك أن تلبي له كل طلباته. ولكن لا تجعل – ابدا – شخصية طفلك تطغى على كلامك وتوجيهاتك وأوامرك، بل لا بد أن تكون أنت صاحب الكلمة، وبخاصة في الأمور التي قد تضر بالطفل، ولا بد أن يحترم كلامك وتوجيهاتك من البداية.

والتفاصيل في هذا الموضوع كثيرة ومن الصعب الإتيان بها كلها في هذه المساحة، ولكن قبل أن ننهي المقال لنسأل ماذا يمكن أن يفعل المعلمون في مساعدة الأطفال والطلاب ودفعهم الى التفكير؟

يقول أحد كتاب التربية انه يتمثل دور المعلم في تسهيل عمل الطلاب بالحرص على توجيههم الوجهة الصحيحة، ومراقبة أعمالهم، ومتابعتها للحصول على نتائج سليمة. كما يترتب عليه إثارة روح التساؤل فيهم وتشجيعهم على ذلك وأن يعمل هو بنفسه على استكشاف الخلفية التي لديهم عن طريق الأسئلة، وذلك ليتمكن من البناء عليها. وهذا يعني التفاعل المستمر ما بين الطالب والمدرس لا سيما عن طريق التغذية المرتدة. كما يمثل المدرس دور المستشار حين الضرورة، ويعمل أساسًا عمل المدرب لا عمل المدرس الذي يصب المعلومات فقط. ولتحقيق ذلك لابد أن تتوافر لديه روح التدريب، والإشراف، والتوجيه، وحب العمل بالإضافة إلى الخلفية المناسبة لذلك.
والتقييم هو قياس مستوى الأداء وتوجيهه، لا بد من تقييم أداء الطلاب وذلك للتمكن من معرفة المستوى الذي وصل إليه الطلاب. ومن الضروري أن تستند عملية التقييم على المستوى الشخصي والجماعي أي على قدرات الطالب الذاتية وأدائه في الفريق، كما ينبغي أن تستند إلى كل من المحتوى والطريقة أي إلى المعرفة والمهارات، ويكون ذلك بالنظر إلى الأهداف هل تحققت؟ وبالنظر إلى أداء الطلاب بشكل مفصل لمعرفة نقاط الضعف والقوة في الأداء وفي اكتساب المعرفة والمهارات وفي الإعداد النفسي. وهذا يتطلب المتابعة المستمرة من قبل المرشدين والتغذية المرتدة الآنية والتفكر فيما حصل.
ويمكن تقييم الأداء عن طريق التأكد من فهم الطالب بتركه يُعبر عن الموضوع بعباراته وشرحها أمام المدرس والطلاب، وان يُعطى المجال لتدريب زملائه، وان يقيِّم بعضهم بعضًا، وأن يقوموا بكتابة المذكرات والتقارير وأوراق البحث، والكشف عن مدى استفادة كل عضو في الفريق من الآخر وتأثير كل عضو على الفريق ككل.

الخلاصة؛ تقول الحكمة «إن كنا نريد أن نغير النتائج علينا أن نغير السلوكيات والتصرفات والأفعال»، لذلك يمكننا القول إن كنا نريد أن نربي أطفالنا على التفكير فعلينا أن نثير في نفوسهم وعقولهم الرغبة في التفكير وأن ننمي تلك الأساليب لا أن نحبطهم ونضع في حياتهم المعوقات الفكرية والأقفال الذهنية.

الثلاثاء، 2 ديسمبر 2014

المضافات الغذائية - صبغة الورا الحمراء أ سي (E129)

 

 تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :٢ ديسمبر ٢٠١٤

بقلم الدكتور زكريا خنجي

تعرف صبغة الورا الحمراء أ سي (E129) بأنها من صبغات آزو (azo) الصناعية التي بدأ استخدامها عام 1971 في الولايات المتحدة الأمريكية بدلاً عن صبغة الامارانث (E123). وللصبغة العديد من الأسماء مثل: (C.I. 16035)، لون الغذاء الأحمر 17، (FD & C Red 40)، بالإضافة إلى الأسماء العلمية الأخرى.
وعادة ما تكون الصبغة على هيئة مسحوق أحمر داكن، وتستخدم كواحدة من أملاح الصوديوم، وربما تستخدم على حد سواء كأملاح الكالسيوم والبوتاسيوم. وهو قابل للذوبان في الماء ليتحول إلى محلول، والحد الأقصى للامتصاصية تقدر بحوالي 504 نانومتر، ودرجة انصهاره يتجاوز 300 م. وتعد صبغة الورا الحمراء أ سي (E129) واحدة من المواد الكيميائية الأكثر إنتاجًا.
ويتم تصنيع صبغة الورا الحمراء أ سي (E129) من المشتقات البترولية (coal tar)، وعلى الرغم من الاعتقاد الخاطئ الشائع، فإن الصبغة صبغة الورا الحمراء أ سي (E129) لا تستخرج من الحشرات، على عكس بعض الصبغات الأخرى.

الآثار السلوكية المحتملة
صدرت عدة تقارير ودراسات حول موضوع المضافات الغذائية وخاصة الألوان الغذائية، وربما من أشهرها تقرير عام 2007 من جامعة ساوثامبتون حول تأثير أصباغ (azo) على الأطفال ذوي الثلاث السنوات من العمر والذين تتراوح أعمارهم ما بين 8 – 9 سنوات، وتقرير عام 2006 الذي أشار المؤلفون إلى أنه من الصعب تقيد كل هذه الأصباغ من دون التسبب في حدوث نقص التغذية.
وردًا على ذلك، فإنه في 6 سبتمبر 2007 أصدرت هيئة مواصفات الأغذية البريطانية بعض المواصفات المنقحة بشأن بعض الإضافات الغذائية الاصطناعية، بما في ذلك صبغة الورا الحمراء أ سي (E129).
صرح البروفيسور ستيفنسون، الأستاذ المشارك في التقريرين، «لقد كانت هذه دراسة من الدراسات المهمة في مجال البحث، وتشير النتائج إلى وجود ترابط بين استهلاك مخاليط ألوان الطعام الاصطناعية والمواد الحافظة مثل بنزوات الصوديوم وزيادة في سلوك مفرط لدى الأطفال». وأضاف: «ومع ذلك، يجب ألا يعتقد الآباء أنه بمجرد إزالة هذه الإضافات من المواد الغذائية يمكن أن نمنع اضطرابات السلوك المفرط، حيث إننا نعلم بوجود العديد من المؤثرات الأخرى التي يمكن أن يكون لها ذات التأثير، وهذه واحدة، وإن كنا ننصح بتجنبها».
ووجدت دراسة أخرى أن زيادة مستويات النشاط المفرط واضطرابات نقص الانتباه بسبب النشاط المفرط لدى الأطفال ناتجة عن تناولهم بعض المواد الكيميائية. وبناء على هذه الدراسة، نصحت الهيئة المعنية في المملكة المتحدة بالتخلص من بعض الألوان الاصطناعية، مثل: أصفر غروب الشمس، Carmoisine، التارتازين، بالإضافة إلى صبغة الورا الحمراء أ سي (E129) من وجبات الأطفال الذين يعانون من النشاط المفرط، حيث أشارت نصائح الهيئة إلى أنه يمكن أن يكون لذلك بعض الآثار المفيدة.

الآثار الصحية
لم تشر الدراسات إلى أن صبغة الورا الحمراء أ سي (E129) يمكن أن تكون ذات تأثيرات سمية جينية، أو أنه يمكن أن تسبب السرطان، ولكن مركب (para-cresidine) الذي يستخدم في إنتاج الصبغة، وجد أنه يمكن أن يسبب أورام المثانة عند القوارض، ولكن لم يتم العثور على المركب بصورة حرة في الصبغة. كما أنه لم توجد دلائل على أن صبغة الورا الحمراء أ سي (E129) يمكن أن تسبب عيوب خلقية في الفئران أو الأرانب، ولا حساسية الجلد فيهما.

القوانين
في 10 إبريل 2008، دعت هيئة مواصفات الأغذية بإزالة الطوعية أو بالتخلص الطوعي من الألوان – ولكن ليس من بنزوات الصوديوم – بحلول عام 2009. بالإضافة إلى ذلك، فقد أوصت بأنه ينبغي أن يتم اتخاذ الإجراءات اللازمة للتخلص منها سواء في الأطعمة أو المشروبات على مستوى الاتحاد الأوروبي على مدى فترة محددة. إلا أن هيئة سلامة الأغذية الأوروبية (FSA) طلبت من المملكة المتحدة بمراجعة الدراسة، حيث أشارت الهيئة الأوروبية إلى أن الدراسة قدمت أدلة محدودة وذات دلالات إحصائية صغيرة. وفي نفس السياق فقد خلصت (FSA) إلى أن الاستهلاك اليومي المقبول من الألوان التي تم تحليلها في الدراسة ساوثامبتون لا تحتاج إلى تغييرها. ولكن أصر وزراء المملكة المتحدة على التخلص من ستة ملونات تدريجيًا بحلول عام 2009.

إلى النواب وأعضاء المجالس البلدية.. مع التحية

 

 تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :٢ ديسمبر ٢٠١٤

بقلم الدكتور زكريا خنجي

في البداية نبارك للبحرين نجاح الانتخابات، وكذلك نبارك للفائزين في مجلس النواب والمجالس البلدية على دخولهم هذا المعترك السياسي الاجتماعي، وعلى ذلك فكلنا أمل في أن تسع صدورهم لبضع كلمات من مواطن يمكن أن يعد واحدا من الشهود الذين يراقبون ما يحدث في البلاد.

أيها السادة النواب:
إن البيئة في البحرين تعاني الكثير من المشاكل، فمازال قانون البيئة الجديد يقبع بين أدراج المجلس النيابي ومازال قانون الصحة العامة يراوح بين مكاتب المجلس النيابي ومازلنا نطمح في التفكير بقانون خاص بسلامة الأغذية، والعديد العديد من الأمور المتعلقة بالبيئة ناقصة سواء من حيث التشريعات أو حتى المراقبة، نريد منكم خلال هذه السنوات الأربع القادمة أن تنظروا إلى هذا الجانب بإشفاق ولو لمرة واحدة، حيث إننا لم نجد إلا مرشحا واحدا – فقط – هو من تحدث عن المشاكل والقضايا البيئية خلال حملته الانتخابية، ولا نعرف لماذا، هل لأنكم لا تعرفون ما البيئة ومشاكلنا البيئية؟ أم لأنكم لا تقدرون لهذا الموضوع من قيمة؟

أيها السادة أعضاء المجالس البلدية
أنتم أيها السادة، مكلفون بحوالي 25 قضية جلها قضايا بيئية وخدمية، كل الذي تحتاجون إليه أن تستشيروا المواطنين في المناطق التي تسكنونها، سواء عن طريق الاستفتاء أو الاستبيان أو حتى بتدشين موقع إلكتروني حتى يقول الناس مشاكلهم الخدمية البيئية، وعليه يمكنكم التعامل معها.
أنصتوا للناس وللمواطنين، فمن عنده مشكلة في المصباح الذي أمام منزله يعتبر أن هذه المشكلة أكبر مشكلة تواجه البشرية، فلا تغضب عندما يتصل بك مواطن يطالبك بتغير هذا المصباح المحروق، ولا تتذمر بأن المواطن طالبك بتوفير مطب صناعي أمام منزله.
نعم، بعض الأعضاء يقولون إن أمامنا مشاكل كبيرة فمن الأفضل أن نلتفت إليها ولا نلتفت إلى القضايا الصغيرة، وإن كان هذا الصحيح فإن المشاكل الصغيرة أو المشاكل التي يمكن أنت أن تعتبرها تافهة هي عند المواطن كبيرة وتؤرق مضجعه، فلا تهملها.

أيها السادة،
أنتم اليوم وافقتم على حمل هذه الأمانة، إنها أمانة وطن ومواطن، فلا تتقاعسوا مهما حدث، ولا تتوقعوا أن العملية سهلة وأنها وجاهة ومنصب وامتيازات، والله إنها مسؤولية وتحتاج منكم إلى جهد كبير وصدق مع النفس والمواطن والوطن، وسوف تحاسبون عليها.
يقول عمر «والذي بعث محمدًا بالحق لو أن جملاً هلك ضياعًا بشط الفرات خشيت أن يسأل الله عنه آل الخطاب».
فكونوا بهذه الشفافية.

السبت، 29 نوفمبر 2014

طفلٌ يفكر

 

 تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :٣٠ نوفمبر ٢٠١٤

بقلم: د. زكريا خنجي

عملية التفكير لدى الإنسان لا تحدث بصورة اعتباطية أو بصورة وقتيه أو ساذجة، وإنما هي من المرجح تربية طويلة المدى تبدأ منذ لحظات الطفولة المبكرة، لتكسب الإنسان إنسانيته، ويتميز بها على أقرانه من المخلوقات الأخرى، وذلك لأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يفكر أما بقية الكائنات فهي تعيش على فطرتها وعلى ما جبلها الله عليه، لذلك نعتقد أنه كلما ارتقى الإنسان في قدرته على التفكير ابتعد كثيرًا عن البهيمية التي تعيش فيها بقية الكائنات الحية.
والتفكير – كما تشير العديد من التعريفات – أنها عملية ذهنية، يتفاعل فيها الإدراك الحسي مع الخبرة والذكاء لتحقيق هدف ما، ويحصل بدوافع وفي غياب الموانع.
فأما الإدراك الحسي فهو الإحساس بالواقع والانتباه إليه، وأما الخبرة فهي ما اكتسبه الإنسان من معلومات عن الواقع، ومعايشته له، وما اكتسبه من أدوات التفكير وأساليبه، فيقوم بتنظيمها وتسجيلها، وتخزينها، وبالتالي يقوم بدمجها في مخزونه المعرفي، ويعيد استخدامها بطريقة أو بأخرى عندما يحتاج إليها، وأما الذكاء فهو عبارة عن القدرات الذهنية الأساسية التي يتمتع بها الناس بدرجات متفاوتة. ويعتقد أن التفكير يحتاج إلى دافع يدفع الإنسان إلى ممارسته، وكذلك لابد من إزالة العقبات التي تصده وتجنب الوقوع في أخطائه بنفسية مؤهلة ومهيأة للقيام به.
وإن كان التفكير أمر مألوف لدى الناس لأن الكثير منهم يمارسه، إلا أنه من أكثر المفاهيم غموضًا وأشدِّها استعصاءً على التعريف، ولعلَّ مردَّ ذلك إلى أن التفكير لا يقتصر أمرُه على مجرد فهم الآلية التي يحصل بها، بل هو عملية معقدة متعددة الخطوات، تتداخل فيها عوامل كثيرة تتأثر بها وتؤثر فيها، فهو نشاط يحصل في الدماغ بعد الإحساس بواقع معين، مما يؤدي إلى تفاعلٍ ذهني ما بين قدُرات الذكاء وهذا الإحساس والخبرات الموجودة لدى الشخص المفكر، ويحصل ذلك بناءً على دافع لتحقيق هدف معين بعيدًا عن تأثير المعوقات.
وربما من أهم أهداف التفكير لدى الإنسان، هو: الفهم والاستيعاب، واتخاذ القرار، والتخطيط، وحل المشكلات، والحكم على الأشياء، والإحساس بالبهجة والاستمتاع، والتخيل، والانغماس في أحلام اليقظة.
وهذه الأهداف لا تتحقق بصورة اعتباطية مرتجلة، وإنما تحتاج إلى مخزون معرفي يقوم على أركان وشروط، وتدفعها دوافع ومثيرات، وتقف في طريقها العقبات. إلا أنها في النهاية عملية واعية يقوم بها الفرد عن وعي وإدراك، ولا تتم بمعزل عن البيئة المحيطة، أي أن عملية التفكير تتأثر بالسياق الاجتماعي والسياق الثقافي الذي تتم فيه.
وهذا يعني أننا لو تمكنا أن نُعلم عقل الطفل ليقوم بإعادة نمذجة العالم الذي يعيش فيه حسب قدراته الذهنية، وجعلنا عقله أكثر فعالية في تحقيق أهدافه وخططه ورغباته وغاياته، وتطوير الخيال لديه ومعرفة المصطلحات، والإسهام في عملية حل المشكلات، والاستنتاج واتخاذ القرارات، نكون قد علمنا الطفل مهارة التفكير.
ولكن هل التفكير كمهارة يمكن أن يتعلمها الطفل؟ وإن كانت كذلك، كيف؟
نحن نؤمن أن التفكير مهارة شأنها شأن أي مهارة أخرى يمكن اكتسابها وتعلمها واستمرار تعلمها وذلك بتشغيل الدماغ بفعالية دائمة، وإن كان البعض يشكك في ذلك، ولكننا نميل إلى أن التفكير مهارة يمكن اكتسابها وربما ما يؤكد هذا التوجه هو ما تقوم به الكثير من المعاهد المتخصصة والمؤسسات التعليمية من تطبيق ذلك فعلاً على أرض الواقع، وفي أماكن مختلفة من العالم وذلك بإدخال مهارة التفكير ضمن المناهج لاتخاذه سبيلا للتحصيل المعرفي وإنتاج الأفكار.
حسنٌ، إن كان التفكير مهارة، فكيف يمكننا أن ننمي هذه المهارات لدى الطفل ؟
إن عملية تنمية مهارات التفكير – وخاصة لدى الأطفال – ليست من السهولة بمكان، فهي تحتاج إلى منهجية واضحة وآلية محددة يمكن أن يتبعها الوالدان والمعلمون حتى يساهموا بصورة أو بأخرى في تنمية نمطية التفكير لدى الطفل، ولكن بأي حال من الأحوال هذه المنهجية وهذه الآلية يمكن أن نطلق عليها مصطلح «إدارة التفكير».
وإدارة التفكير؛ ليست إدارة بالمعنى الصحيح وإنما هي منهجية موضوعية منظمة للتفكير أو لتنمية مهارات التفكير لدى الإنسان، وهنا – ونقصد فيما يخص الأطفال – يمكن تقسيمها إلى ثلاثة جوانب مختلفة إن كانت متداخلة ومترابطة بعض الشيء، حيث إننا نتحدث عن الجانب الخاص بالوالدين، الجانب الخاص بتنمية المهارات المختلفة، والجانب المرتبط بالتدريب والتعليم.
أولاً: الجانب الخاص بالوالدين: في إدارة التفكير وعندما نتحدث عن الوالدين فإننا نتحدث عن الأب والأم، وليس أحدهما إذ أن تعليم الأطفال وتنمية مهارات التفكير لديهم يحتاج إلى الوالدين وليس أحدهما، وكأن الآخر يتفرج ولا تعنيه الأمور، لذلك فإن على الوالدين:
1- أن يكونوا ملمين بأنواع وسبل التفكير المختلفة، مثل: طريقة سكامبر، استمطار الأفكار، التفكير خارج الصندوق وما إلى ذلك.
2- أن يكونوا ملمين ولو بصورة جزئية ببعض مبادئ علم نفس الذكاء والأنواع المختلفة للذكاء، وربما اختبارات الذكاء.
3- أن يكونوا ملمين بأساسيات التربية المختلفة، وخاصة التربية بالحب.
4- أن يكونوا ملمين بأساسيات التعليم المختلفة، مثل التعليم باللعب.
5- أن يكونوا ملمين بلغة الجسم وتعابيره.
ونحن إذ نقول ذلك فإننا لا نحتاج إلى والدين خريجي معاهد تربية وعلم النفس، وإنما نحتاج إلى والدين يرغبان في تنمية مهارات التفكير لدى أبنائهم، بالحب، وليس بالعنف ولا بالإكراه، نريد من الوالدين أن يصغوا «وأكرر أن يصغوا» لأبنائهم لا أن ينهروهم، وأن يحاوروهم لا أن يعنفونهم، نريد أن نبني الحب أولاً في المنازل، وبالتالي الهدوء وراحة البال، فإن توفر ذلك فإنه يمكن أن ننتقل إلى الجانب الآخر.
ثانيًا: تنمية المهارات المختلفة: نجد أنفسنا في إدارة التفكير أمام ثلاثة مهارات تحتاج إلى تنمية، وهي:
أ‌- مهارات الإعداد النفسي والتربوي.
ب‌- المهارات المتعلقة بالإدراك الحسي.
ت‌- مهارات متعلقة بالمعلومات والخبرة.
لنتطرق إلى هذه النقاط بشيء من التفصيل.

أ- مهارات الإعداد النفسي والتربوي، حيث تتمثل في:
1- أن نثير رغبة الطفل في الموضوع، ونثير حب الاستطلاع لديه ونثير التساؤلات وحب التعمق في الموضوع.
2- أن نزرع ثقته بنفسه وقدرتها على التفكير والوصول إلى النتائج.
3- أن ننمي العزم والتصميم، والتي يمكن أن تتمثل في السعي لهدف؛ وتحديد الوجهة وطريقة العمل والمتابعة الدؤوبة الذاتية لذلك؛ والحرص على الوصول إلى النتائج المفيدة.
4- المرونة والانفتاح الذهني وحب التغيير: أن يقر الطفل بالجهل إن لزم؛ ويستمع إلى وجهة نظر الآخرين ويستشيرهم، فالأطفال جبلوا على العناد لذلك يجب أن نعودهم على الاستعداد للعدول عن وجهة نظرهم إن لزم الأمر؛ وربما التريُّث في استخلاص النتائج.
5- سهولة التواصل مع الآخرين والانسجام الفكري معهم، وخاصة إن دعت الظروف للعمل بأسلوب الفرق الجماعية، وخاصة في طرح الأفكار وإجراء الحوار وتقبل الآراء الأخرى التي ربما تناقض رأيه هو.

ب ‌- المهارات المتعلقة بالإدراك الحسي والذاكرة فيمكن تلخيصها كالتالي:
1- توجيه حواس الطفل حسب الهدف والخلفية العلمية أو الفكرية، وهذا يعني أن يتمرس الطفل على توجيه انتباهه نحو الهدف المراد الوصول إلى تحقيقه.
2- تعليم الطفل الاستماع الواعي والملاحظة الدقيقة وربط ذلك مع الخبرة الذاتية، أي تمحيص الاحساسات والتأكد من خلوها من الوهم والتخيلات.
3- توسيع نطاق الإدراك الحسي وذلك بالنظر إلى الأمر من عدة اتجاهات ومن عدة زوايا.
4- تعليم الطفل كيفية تخزين المعلومات وتذكرها بطريقة منظمة واستكشافية؛ وذلك بإثارة التساؤلات، استكشاف الأنماط، استخدام الأمارات الدالة والأشياء المميزة، واللجوء إلى القواعد التي تسهل تذكر الأشياء، ومناقشة الآخرين والتحدث معهم علهم يثيرون فيه ما يؤدي إلى التذكر.

ت‌- أما المهارات المتعلقة بالواقع والمعلومات فهي كالتالي:
1- على الطفل أن يتعلم إعادة ترتيب المعلومات المتوفرة: التركيب، التصنيف، اتباع المنهج الملائم لذلك.
2- على الطفل أن يتعلم طرق جمع المعلومات واستخراجها من مصادرها، السؤال عنها، البحث التجريبي.
3- على الطفل أن يتعلم تمثيل المعلومات بصورة ملائمة كوضعها في جدول أو رسم بياني أو مخطط أو صورة.
4- أن نساعد الطفل في استكشاف الأنماط والعلاقات فيما بين المعلومات: كترتيبها، وتعاقبها، والسبب والمسبب، والنموذج وما يتعلق بذلك.
5- على الطفل أن يتعلم اكتشاف المعاني وذلك باستخدام الاشتقاق، التلخيص، التخيل للكشف عن المضمون.

ولكن في إدارة التفكير يجب أن نتذكر أنه حتى تنطلق عملية التفكير بصورة مجدية وعملية فلابد من وجود الدوافع، والحوافز المشجعة على القيام بذلك، كالدعم المادي والمعنوي، ولابد من إتاحة الفرصة للطفل من استثمار ما اكتسبه من مهارات بالممارسة والتطبيق في مناحي مختلفة.

ويظل الموضوع معلقا، حتى نستكمل الطرق العملية التي يمكن ممارستها في تنمية التفكير لدى الأطفال.

الأحد، 23 نوفمبر 2014

طفلٌ يقرأ

 

تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :٢٣ نوفمبر ٢٠١٤

بقلم: د. زكريا خنجي

عبء وسؤال كبير يقع على عاتق العديد من الأسر التي تهتم، وخاصة في ظل وجود كل تلك المغريات الإلكترونية والفضائيات الخطيرة؛ كيف أجعل ابني أو ابنتي يهتم بالقراءة بصورة عامة؟ كيف أجعله يقرأ كتاب سواء كان ورقيا أو إلكترونيا؟ كيف أجعله يترك الواتسأب والإنستغرام والعوالم الافتراضية والفضائيات العالمية ويقرأ صفحات من كتاب علمي أو معرفي أو ثقافي؟ كيف نحول أطفالنا من الاهتمام بالكورة إلى القراءة؟
مثل هذه الأسئلة كثيرًا ما تتوجه إليّ وخاصة في الدورات التدريبية التي أقيمها بين فترة وأخرى ذات العلاقة بالكتابة والتأليف وبالتالي القراءة.
قالت لي إحداهن ذات مرة؛ حاولت كثيرًا أن أجعل أبنائي يقرؤون، ودفعت الكثير من الأموال على الكتب، وكنت أشجعهم باستمرار، ولكن النتيجة لا شيء، دائمًا سلبية فالأطفال لا يحبون القراءة.
وثنى على ذلك عدة أفراد سواء من الإناث أو الذكور، وعلى ذلك اتهم الجيل الجديد بأنه جيل لا يقرأ، إلا أن واحدة من الحضور لم تؤيد ذلك ولكنها سألت الحضور هذا السؤال: هل أنتم تقرأون؟ كم كتابا تقرأون في الشهر؟ فسكت الجميع وكأن على رؤوسهم الطير، كما يقول المثل العربي، لم يتحدث أحد وإنما بدا كأنهم يتململون، وهنا طبعًا كان بيت القصيد، لماذا لا يقرأ الطفل والشباب، هل لأننا نحن الآباء لا نقرأ؟ هل لأننا قدوة سيئة في هذا الجانب ؟
حسنٌ، لنعد إلى البداية ونسأل أنفسنا كيف نشجع أطفالنا على حب القراءة؟
هناك أمور عديدة وكثيرة وأساليب تربوية متنوعة يمكن أن يسلكها الآباء والأمهات حتى يثيروا رغبة القراءة عند الأطفال، إلا أننا نجد أن النقطة الأولى يجب أن تبدأ من الدولة، فالدولة يجب أن يكون لديها توجه عام لجعل الأطفال يقرؤون، فليس من المنطق أو المعقول أن يقوم الآباء والأمهات بإثارة رغبة القراءة عند الأطفال والفضائيات تحاول أن تهدم كل تلك الرغبة، ووسائل التواصل الاجتماعي تقتل هذه الرغبة بما تبثه من برامج وإشاعات وما إلى ذلك.
على الدولة أن تجند كل وزارتها ذات العلاقة ومسئوليها وكل من له الصلة، وأن يعمل الجميع في هذا الاتجاه، فيمكنها مثلاً أن:
1- تنشئ المكتبات العامة في كل منطقة، وإن كانت هذه المكتبات موجودة فإن عليها أن تكون موجودة بحق، إذ يجب أن تقيم البرامج ومسابقات القراءة وتوزع الجوائز والهدايا للرواد الدائمين وأكثر المداومين على الاطلاع وما إلى ذلك وأن تثير لدى الأطفال هذه العادة بمثل تلك البرامج، لا أن يقوم الموظفون بفتح باب المكتبة وغلقها بحسب الدوام الرسمي، ولا يؤم المكتبة إلا القلة القليلة.
2- أن تخصص جزءا من ميزانياتها السنوية لطباعة الكتب - لجميع الفئات - وخاصة الكتب ذات المستوى العلمي والفكري الجيد وتبيعها للمواطنين بسعر الكلفة، ويمكن أن تركز على كتب الأطفال وخاصة في البداية.
3- أن تعاد صياغة المناهج وخاصة في مراحل التعليم الأساسية لتكون القراءة وحب القراءة والمطالعة جزءا منها، لا أن يتعلم الطفل لينجح فقط، وإنما يتعلم لكي يحب القراءة والمطالعة.
4- أن تستحدث برامج تلفزيونية وإذاعية تحث على القراءة والمطالعة، ويمكن أن تقام مسابقات ثقافية وعلمية من خلال هذه الأجهزة، وكذلك يمكن أن يشجع الأطفال على التأليف والكتابة بشتى صورها، وتمنح جوائز قيمة للفائزين.
5- تشجع الكتّاب ومؤلفي البلاد على التأليف والكتابة، ويمكن أن تسهم الدولة بجزء من تكاليف الطباعة والنشر والتوزيع.
6- يجب أن تسهم الدولة في إقامة المراكز الثقافية وأندية القراءة للتحاور الفكري، سواء على مستوى الوطن أو على مستوى الجامعات أو المدارس.
وهذا غيض من فيض، وهناك العديد من الأمور التي من الممكن أن يقع عبئها على الدولة ولا نريد الإتيان بها، ولكن ماذا يقع على أولياء الأمور، هل يقفون مكتوفي الأيدي ويتفرجون من غير أن يكون لهم وجود وتأثير في الموضوع ؟
في الحقيقة على أولياء الأمور يقع عبء كبير ويمكن أن نلخصه في التالي:
1- القدوة الحسنة، فليس من المنطق أن تطلب الأم من أبنائها القراءة وهي لا تقرأ ولا تقرب كتابا، وعندما نتحدث عن الأم فإننا نقصد الجميع، فالأسرة يجب أن تكون قارئة، فالأسرة خير محضن لتربية الأبناء على حب القراءة.
2- يفضل أن يكون في المنزل مكتبة حتى لو كانت صغيرة، ويجب ألا يمنع أطفال المنزل من ارتياد هذه المكتبة، فإن كانت تحوي بعض الكتب الثمينة الخاصة بالوالدين، فيمكن تخصيص جزء من هذه المكتبة للأطفال وإبعاد تلك الكتب الثمينة عنهم خوفًا من تمزيقها واللعب بها.
3- خصص جزءا من وقتك -الأب والأم أو أحدهما- للجلوس مع الأطفال في المكتبة لممارسة القراءة معهم، اقرأ لهم فترة واسألهم بعض الأسئلة عن موضوع الكتاب لمعرفة مدى استيعابهم للموضوع، وخصص جزءا من الوقت ليقوموا هم بالقراءة بدلاً منك واستمع لهم، وناقشهم في موضوع الكتاب.
4- عند إقامة معارض الكتب خذهم معك إلى المعرض وأعط كل واحد منهم مبلغا من المال ودعه يشتري الكتاب الذي يحبه، وإن عجز أو استشارك فلا تبخل عليه بالنصيحة، وربما تسهم معهم في البحث عن الكتاب الذي يحبونه أو الكتاب الذي يناسب أعمارهم، المهم ألا يخرج من المعرض إلا بكتاب قد اشتراه هو بنفسه.
5- ولا تنس أن تكتب اسمه -هو- على الكتاب وأن تجد للكتاب مكانا في مكتبة المنزل، وهذا لا يمنع أن تضع الكتاب فترة عند سريره حتى يقلبه ويتمعن فيه بين فينة وأخرى.
6- اجعل الكتاب والقراءة جزءا من حياتك وحياتهم، وإن كنت تشاهد التلفزيون ناقشهم فيما يعرض على الشاشة الصغيرة، إن ذهبت معهم إلى السينما لمشاهدة فيلم ناقشهم فيه واسمع آراءهم وأفكارهم، اجعل جزءا من حديثك معهم حديثا ثقافيا فكريا.
7- لا تضغط عليهم ولا تضغط على نفسك ولا تغضب إن انصرفوا بعض الوقت عن الكتاب، اتركهم يمارسون بعض الأنشطة الأخرى، ولكن ربما أمكنك بعد ذلك إعادتهم إلى الكتاب بطريقة شائقة ومسلية.
8- أثناء سفرك وغيابك عنهم فترة أحضر لهم مع الهدية التي جلبتها لهم كتابا كهدية، ويمكنك أن تقدم لهم مع هدية عيد ميلادهم كتابا، أي اجعل الكتاب أجمل هدية في جميع المناسبات.
9- وقبل السن المدرسي ساعدهم على ممارسة الأنشطة التي تعد فيها القراءة جزءا من النشاط، وإن كان هذا الجزء صغيرا.
10- وأخيرًا وهي أولاً يجب أن تعيش أنت أولاً أن القراءة جزء مهم من عقيدتنا الإسلامية، فهي أول آية نزلت، وأول فكرة سادت وأول تشريع ألزم، فاجعل القراءة جزءا أساسيا وعقائديا من فكرك، حينئذ سيتوجه أطفالك للقراءة.
وهذا أيضًا غيض من فيض، فلا يستطيع مثل هذه المقال الصغير إلا أن يكون جزءا من توجيه عام للقراءة، لذلك أقول دائمًا يجب أن تتحول القراءة إلى عادة من العادات الحسنة في حياتنا الفكرية والمعيشية، شأنها شأن الرياضة والأكل والصلاة وما إلى ذلك.

قال لي صديق حكايته مع القراءة، يقول:
بدأت حكايتي مع القراء في سن مبكرة جدًا ربما كنت في الرابعة الابتدائية، قبل أن أسترسل في قصة صديقي فإن القصة التي نتكلم عنها حدثت في الستينيات من القرن العشرين، أي كان عمر هذا الصديق آنذاك حوالي 9 سنوات، كنت في ذلك الوقت شغوفا بالقراءة إلى درجة كبيرة، لا أعرف لماذا ولكن كنت أشعر دائمًا بهاجس يدفعني إلى اقتناء كل مجلة يحضرها والدي إلى المنزل - بالمناسبة والده يرحمه الله كان أميًا وليس جاهلاً - كنت أطالعها من الغلاف إلى الغلاف، كنت أشاهد الصور وأحاول أن أكتب المجلة في أوراقي الخاصة وأنا لا أعرف ماذا أكتب لأني لم أكن أعرف القراءة آنذاك.
كنت بين فترة وأخرى أطلب من أبي أن يعطيني (100 فلس) وهي تعني الكثير في ذلك الوقت من أجل شراء مجلة مصورة -مثل مجلات سوبرمان وطرزان وما إلى ذلك- كان والدي يزمجر ويغضب ولكنه في النهاية يخضع لرغبتي في القراءة ويعطيني، فكنت أركض إلى المكتبة لشراء مثل هذه المجلات، فكنت أحاول قراءتها وأجد صعوبة بالغة ولكني كنت أرغب أن أعرف وأن أتعرف على معارك طرزان والقرود وسوبرمان والكائنات الفضائية ومجرمي الأرض، ومع إصراري على القراءة والاطلاع بدأت بالفعل أقرأ، وعندما بلغت المرحلة الإعدادية لم تكن مثل هذه المجلات تشبع رغبتي في القراءة فكنت أجمع من مصروفي اليومي 50 فلسا على 50 فلسا حتى يتجمع لدي دينار حينئذ أذهب إلى سوق المنامة لشراء كتاب من كتب مصطفى محمود أو العقاد أو المنفلوطي، كانت المعاناة شديدة مع عمالقة الأدب العربي ومفكري العرب، ولكنها رغبة تتأجج في القلب لم أستطع يومًا أن أكبتها.
وعندما سافرت إلى الجامعة كنت أخصص مبلغا من مصروفي الشهري لشراء الكتب، كل أنواع الكتب، لم أحدد صفة الكتب التي أشتريها أو أوصافها وإنما كنت أشتري من كل البحار والأطياف، واليوم أصبحت لدي مكتبة تحوي المئات من تلك الجواهر النفيسة.
ثم قال: رحم الله والدي فقد علمني وشجعني على القراءة بالمائة فلس التي كان يستقطعها من مصروفنا حتى يشبع رغباتي في القراءة، فلربما لو حرمني من هذا المبلغ لما أصبحت ما أصبحت عليه اليوم.

الخلاصة، لو حاول كل أب وحاولت كل أم أن تغرس هذا الحب في نفوس أبنائنا لتحررنا من واقع شبه الأمية التي نعيشها في الوطن العربي اليوم، لوجدنا أن أولادنا يعيشون حالة القراءة أكثر من عبثهم بالواتسأب والإنستغرام.

الاثنين، 17 نوفمبر 2014

كائنات فطرية - بلسم مكة.. خزانة أدوية منذ القدم

 

 تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :١٨ نوفمبر ٢٠١٤

بقلم الدكتور زكريا خنجي

بلسم مكة أو «مر مكة» شجرة فطرية اسمها العلمي (Commiphora myrrh). وتوجد هذه النبتة في منطقة الحجاز على شكل شجيرة يبلغ معدّل ارتفاعها ثلاثة أمتار، وتتميز بأغصان شائكة وأزهار صغيرة مائلة إلى الحمرة. وتتواجد النبتة التي تعرف أيضا بـ«شجرة المُرّ» في المساحات الممتدة ما بين مكة المكرمة والمدينة المنوّرة، وخصوصًا في المناطق الجبلية الواقعة غرب المدينة المنورة حيث تظهر بشكل كبير مع بداية موسم الأمطار.
وتعرف الشجرة بتسميات متعددة منها حب البلسان أو بيلسان نسبة إلى ثمارها، أو يسمى أيضًا بشجر البشام وخصوصًا في اليمن، وكذلك يسمى في بلاد الشام ببلسم الجليل. وتتميز الشجيرة برائحتها الفواحة العطرة عند فرك أوراقها أو أخذ غصن منها، لهذا تستخدم أغصان شجيرة البشام من قبل أهل البادية كمسواك ذي رائحة عطرة تعطر الفم، كما أن القشور المأخوذة من لحاء الشجيرة تحتوي على مادة عطرية تستخدم كعصارة مطهرة للجروح ومبيدة للبكتيريا، فضلاً عن استخدام تلك القشور كشاي لذيذ ذات رائحة محببة.
وقد استخدم الصحابة رضوان الله عليهم مشتقاتها في علاج الجرحى في الغزوات والحروب، فللبلسم خاصية مهمة في كونه قاتلا للجراثيم والميكروبات ولذا يستخدم في تطهير الجروح وتقرحات الجلد. أما حجاج بيت الله الحرام من الهند وباكستان فقد استخدموه بوضع حبة من المر في أنوفهم في فترة الحج وقاية من الأوبئة، والأمراض.
وقال خبير الأعشاب الأردني رزق عز الدين لمجلة نادي المال والأعمال «مر مكة» أو مر الحجاز ويعرف أيضا بــ«مر البطارخ» لمشابهته لبيض السمك، أو مر الجليل، لا يخلو مرجع قديم أو حديث في طب الأعشاب إلا وذكره، وقد أسهب الأقدمون في فوائده كثيرًا. وهو مستخلص من شجرة البشام او البيلسان. وتظهر مادة البلسم حين يتم استخلاص الزيت من السائل الذي يرشح بعد خدش اللحاء، فيقطر منه ببطء سائل لزج تفرزه النبتة له رائحة عطرة تربنتينية نفاذة، ويتصلب هذا السائل حين يتعرض للهواء. أما عن النوع الجيد منه فهو ذو لون شفاف وقد يميل إلى اللون البني الفاتح، أما النوع الرديء، فهو الذي يدخل فيه ألوان بنية أو سوداء ويبدو كأن فيه رمالا. وأضاف عز الدين «فالمادة المستخلصة هي مر غروي، يحتوي على مادة صابونية ذات خواص جمالية، تعطي للجلد ملمسًا ناعمًا مخمليًا وتساعد على التخلص من الرؤوس السوداء وتخفف من حساسية الجلد وتساعد على شفاء والتحام الجروح. وقد تساعد هذه المادة في بعض المستحضرات مع مواد أخرى لمعالجة الكلف والأمراض الجلدية، وتستخدم أيضًا في صناعة العطور، لكون رائحتها تبقى فترة طويلة من الوقت والبعض يستخدمه كبخور».
وتابع عز الدين: «أما أوراق الشجيرة فهي تعتبر علفًا جيدًا للحيوانات وخصوصًا الإبل حيث يؤدي رعيها إلى زيادة إدرار الحليب، أما ثمار البشام الناضجة التي تعرف بالبلسان أو البيلسان فهي ذات قدرة كبيرة على إطفاء العطش عند تناولها، أما غير الناضجة ففيها درجة من السمية. وللمر فائدة بإضافة مواد أخرى فعالة في حالات السعال المزمن والربو ولصفاء الصوت، وإزالة البحة، ولأوجاع الكلى والمثانة وخصوصًا في حالات الالتهابات البولية، ويفيد في نفخ المعدة ووجع الأرحام والمفاصل، وقد يفيد في طرد الديدان».
وختم عز الدين «مراجعنا في هذه الاستخدامات كثيرة وموثقة منها قانون الطب لابن سينا وتذكرة داوود الأنطاكي، وكذلك تجربتنا العملية المتواضعة التي شهدناها على مرضانا الذين تجاوبوا وبشكل إيجابي مع العلاج ومن دون آثار جانبية».

commiphora6

GhadiNews-%20Mecca%20Balsam11635483898420468750

جلسة مع رجال الأعمال والحديث عن البيئة

 

 تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :١٨ نوفمبر ٢٠١٤

الدكتور زكريا خنجي

جمعتني – في سلطنة عمان – جلسة مباركة في منزل ابن عمنا الوجيه العماني خليل بن عبدالله الخنجي مع مجموعة رائعة من كبار رجال الأعمال، وفي الحقيقة إنها أول مرة أجالس فيها رجال أعمال ونتحدث عن موضوع يهمني ويهمهم وهو موضوع البيئة.
دار حوارنا حول دور رجل الأعمال في المحافظة على البيئة والمسؤولية الاجتماعية التي يمكن أن تقع عليه أمام مجتمعه وبيئته، ولأني – كما أشرت – للمرة الأولى أجالس رجال الأعمال لنتكلم حول هذا الموضوع فقد أذهلني ما سمعت عن مفهوم هذه الشريحة من المجتمع، وللأسف لم يؤخذ رأيهم في الحسبان طوال السنوات الماضية.
ليس مهمًا ما أثير في تلك الجلسة، وإنما ما دار بخلدي بعد تلك الجلسة العديد من الموضوعات البيئية التي لو استطعنا أن نشرك فيها رجال الأعمال والصناعة وأن نمد الجسور بيننا وبينهم لاستطعنا أن نخفف الكثير من المشاحنات والمجادلات والاتهامات بين الطرفين.
فرجالات البيئة يتهمون رجال الأعمال والصناعة بأنهم يتسببون في تلويث البيئة وخرابها من أجل بضعة دنانير ومن أجل مصلحتهم الشخصية فقط، بينما رجال الأعمال يعانون الأمرّين حتى يستخرجوا تراخيص العمل لإقامة بعض المنشآت، حيث إن المطلوب منهم قائمة طويلة من الشروط والمواصفات والمعايير التي يجب أن ينفذونها حتى يمكنهم إقامة مشاريعهم.
ومثل هذا التقاذف بين الطرفين بدأ يلعب في ذهني وقمت باسترجاع كل تلك السنوات من العمل البيئي، ترى ماذا فعلنا نحن؟ لماذا كنا نعرقل كل تلك المشاريع العملاقة؟ ما المطلوب حتى تتم تلك المشاريع وتدر الثروة على البلاد؟
ثم تذكرت أمرا آخر، وهو لماذا لا يشارك رجال الأعمال والصناعة في صياغة القوانين والقرارات البيئية؟ أليس لهم الحق؛ حيث إنهم هم المعنيون بتطبيق كل تلك القوانين؟ ألا يحق لهم أن يقولوا كلمة في هذا الخصوص؟ لماذا نشك بوطنيتهم وخوفهم على مستقبل البيئة والوطن وحق الأجيال القادمة في الحياة؟
لماذا لا نجلس معهم لنسمعهم ونصغي إليهم؟
نحن نتهمهم وهم يتهموننا، ونتقاذف الكلمات والألقاب، ونعتبرهم ملوثين ومفسدين وهم يعتبروننا حجر عثرة في طريق التنمية والتقدم والصناعة، ثم ماذا بعد؟ ألا يمكن أن نجلس على طاولة واحدة ونتفاهم، لنسمع ماذا يريدون وليسمعوا وجهات نظرنا في مشاريعهم، حتى نصل إلى نقاط مشتركة لنعمل على أساسها في تنمية أوطاننا بدلاً من هذا الجفاء؟
ألسنا أبناء وطن واحد، تهمنا المصلحة العامة؟ أعتقد أنه آن الأوان لكي نتفاهم ونتقارب ويصغي بعضنا إلى بعض من أجل تنمية مستدامة.

السبت، 15 نوفمبر 2014

العودة إلى موضوع الانتخابات

 

بقلم: الدكتور زكريا خنجي

نشر في جريدة أخبار الخليج في 16 نوفمبر 2014

من الواضح جدًا أن هناك استياء عام في الشارع البحريني من موضوع الانتخابات فما زال الكثير من الناس عازف عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع حتى يقوم بحقه في اختيار نائب لمجلس النواب، وخاصة بعد أن شاهد الناس أن عدد كبير من المترشحين قد أعادة ترشيح نفسه، وهم أنفسهم الذين وقفوا ضد زيادة الرواتب وهم أنفسهم الذين قلموا أظافر المجلس في موضوع استجواب الوزراء.

ليس ذلك فحسب وإنما هناك اعتقاد وقناعة شبه تامة أن الحكومة هي التي تختار من تريد ليصبحوا أعضاء للمجلس وتقصي من لا تريد، لذلك فإن الناس أصبحت ترتاب في العملية الانتخابية برمتها.

وقضية أخرى، فإن الناظر إلى وجوه من تقدموا لترشيح أنفسهم – ليس كلهم ولكن عدد منهم – لا يعرف التحدث بالعربية أو أن يكتب اسمه، فكيف يمكنه أن يكون ممثلاً لدائرة انتخابية، فما بالنا بمشجع كرة قدم وصباب شاي وما إلى ذلك، ونحن هنا لا نسخر من أحد أو نقلل من شأنه، ولكن المجلس من المفروض أن يدخله نوعية من الرجال والنساء ذوي الكفاءات الذين يستطيعون أن يرفعوا من شأن البلد والمواطن، لا الذين يفكرون في جيوبهم وامتيازاتهم فقط، هؤلاء سيقومون مستقبلاً بوضع التشريع ومراقبة عمل الحكومة ودراسة الميزانيات وما إلى ذلك، فهل يستطيع كل من تقدم بترشيح نفسه أن يعمل ذلك ؟ أم أن الكفاءات يتم إقصاءهم من العملية الانتخابية وهذا الحديث بدأ يسري كسريان النار في الهشيم وخاصة بعد أن تم إقصاء عدد من الكفاءات الوطنية من العملية الانتخابية بسبب أو بآخر.

كما ولا حظنا أن بعض الجمعيات تقدم مرشحيها للانتخابات ليس بسبب كفاءاتهم أو قدراتهم العالية وإنما بسبب أنهم أعضاء في الجمعية فقط، حتى وإن لم يكن قادر على فعل شيء، المهم أن تمتلك الجمعية صوت ومقعد إضافي في المجلس يمكن أن يساعدها على تمرير مشاريعها وأفكارها، هذا طبعًا إن كان لها مشاريع وأفكار.

ومن المضحك المبكي – وخاصة في هذه الدورة الانتخابية – وجد بعض أعضاء المجالس البلدية في نفسه الكفاءة أن يقدم نفسه للترشيح كنائب للبرلمان، على الرغم من أنه لم يقدم لدائرته الخدمات المقررة والتي من المفروض أن يقدمها كعضو مجلس بلدي، يا ترى ماذا يمكن أن يقدم هذا الإنسان للبرلمان بعد أن كان عاجزًا أن يقنع المواطنين في دائرته من خلال عضويته في المجلس البلدي أنه الكفاءة المناسبة للمنصب القديم مقارنة بالمنصب الجديد ؟

بعض المرشحين يقدم نفسه على أنه الإنسان "السوبرمان" الذي يمكنه أن يحرك كل الملفات المغلقة؛ مقل: الإسكان والتعليم والشباب والمرأة والمخلفات والإيجارات والكهرباء وكل شيء، ويعزف على أوتار رغبات الناس وضعفهم وتطلعاتهم بحياة كريمة، وفي الحقيقة فإن الناس تعرف علم اليقين أنه لا يمكن أن ينجز 1% من الكلام الذي يقوله، ولكن الناس ضعفاء أمام احتياجاتهم الأساسية ورغباتهم الحياتية، فيضطرون إلى تكذيب أنفسهم ولكنهم أيضًا لا يصدقون مرشحيهم، وإنما يتغافلون عن هذه الحقيقة لاعتقادهم أن هذا المرشح يمكن أن يوظف ابنهم أو أن يحلحل الرواتب التقاعدية وبعض الأمور الحياتية الأخرى.

مثل هذه الأمور وأمور أخرى كثيرة جعلت الناس تعزف عن الرغبة في الاستمرار في العملية الانتخابية، وجعلت النكات تنطلق من الأفواه لتتندر من الانتخابات برمتها، فتزعزعت الثقة، فضرب اليأس جذوره في النفوس، إذن كيف يمكن إعادة الميزان إلى وضعه الطبيعي ؟

لا أدعي أن عندي الحل أو العصا السحرية لتوضيح الحلول التي من الممكن أن تمارسها الحكومة أو مجلس النواب للخروج من عنق الزجاجة، ولكن حتى تتضح الأمور بأسلوب علمي يجب أن ندرس الموضوع أولاً، كيف ؟ على الحكومة أن تصمم استبانة وطنية لدراسة اتجاهات المواطنين نحو البرلمان، وما تخوفهم من هذا المجلس، وهل هناك فعلاً عزوف أم أننا نشعر بذلك فحسب، وربما في الحقيقة – قد – لا يوجد عزوف، هل تمت دراسة كل الإشاعات والأقوال التي تروج عن البرلمان ؟ نحتاج فعلاً إلى حقيقة.

نتائج هذه الدراسة الوطنية يمكن أن تعد مؤشر لاتجاهات الناس وربما حتى معلوماتهم عن البرلمان وأدواره المختلفة في المجتمع، فكم مواطن لا يعرف دور المجلس النيابي في المجتمع ؟ وكم منهم يخلط ما بين المجلس النيابي والمجلس البلدي ؟ وكم من راغب في ترشيح نفسه للبرلمان وهو لا يعرف دوره في هذا البرلمان ؟ وماذا يحتاج الناس لرفع مستوى الوعي لديهم بالحياة البرلمانية ؟

تبنى على هذه الدراسة بعض البرامج التوعوية سواء من خلال التلفزيون أو الإذاعة أو الصحافة بالإضافة إلى استخدام قنوات ووسائل التواصل الاجتماعي، فاليوم يعد تجاهل وسائل التواصل الاجتماعي في أي خطة إعلامية ضرب من الغباء السياسي يؤدي حتمًا إلى الفشل السياسي.

وفي الحقيقة فنحن لم نسمع "بمعهد البحرين للتنمية السياسية" إلا منذ حوالي شهرين فقط، حينما بدأ في تنفيذ بعض المحاضرات للراغبين في الموضوعات المتعلقة بالبرلمان، وإن كنا نعتقد أن على هذا المعهد يقع عبء كبير في عمل العديد من البرامج التدريبية المستمرة طوال العام للراغبين كلها تصب في موضوع البرلمان والمجالس البلدية وما إلى ذلك، وإن كنا نقول برامج تدريبية مستمرة فإننا نقصد برامج تدريبية وليس مجرد بعض المحاضرات السريعة فقط، وليس المطلوب هنا بعض البرامج السياسية وإنما يمكن أن يشمل ذلك العديد من الموضوعات الأخرى التي يمكن أن تخدم النائب أو العضو البلدي في حياته العملية؛ مثل: القدرة على الحوار وتقبل الرأي الآخر، القدرة على التحدث أمام وسائل الإعلام، كتابة المحاضر والتقارير، إجراء البحوث .. الخ.

وربما يأتي ذلك اليوم الذي نفكر فيه في المؤهل الدراسي للراغبين في الترشيح للبرلمان، وقد يقول قائل إن من يملك الشهادة الجامعية قد لا يكون مؤهلاً للمجلس، فكم من إنسان قد لا يملك تلك الشهادة إلا أنه في حياته العملية إنسان فعال ومنجز ومتمكن من إدارة شئون أعماله ونفسه ومجتمعة، وفي الحقيقة نحن لا نختلف عن ذلك كثيرًا، ولكن من غير المعقول أيضًا أن نترك الحبل على الغارب لكل من جاءه الإلهام بالليل فيعتقد أنه الشخص المناسب لكرسي البرلمان، نحن نعتقد أنه يجب أن تكون هناك ضوابط ومقاييس واضحة ومحددة للعيان لكل من يرغب في الجلوس تحت قبة البرلمان.

ونعتقد أيضًا أنه حتى تتغير صورة البرلمان في أعين الناس فإنه يجب أن ينجز شيء – أي شيء – يكون للمواطن فيه النصيب الأكبر، وأن يمتلك فيه النواب أدواتهم البرلمانية الصحيحة حتى يستخدمونها بصورة صحيحة، فالكثير من المواطنين يتساءلون كيف استطاع البرلمان في جلسة أو عدة جلسان قليلة أن يفرض على المواطنين ضريبة التعطل (1%) ولكنه لم يتمكن حتى الأن من زيادة الرواتب على الرغم من مرور 12 سنة على التجربة البرلمانية في البحرين ؟ لماذا تمكن المجلس من الأولى وعجز بل وعجز عجزًا كبيرًا من الثانية ؟

لماذا لم يتمكن البرلمان من القضاء على الفساد الإداري والمالي على الرغم من تقرير الرقابة المالي الواضح، لا وبل والشديد الوضوح، لماذا المماطلة من قبل النواب ؟

يسمع المواطن بالعجز المالي للدولة إلا أنه في المقابل يرى البذخ في أمور أخرى كثيرة، لذلك يتساءل أتقتير هنا وبذخ هناك ؟ إذن أين الشعارات التي رفعها النواب مثل "نعمل من أجل المواطن" أو ما شابه ذلك.

يرى المواطن عجز وعجز واستمرار للعجز وأخيرًا فشل يؤدي إلى إحباط، وبالتالي فقدان الثقة بالتجربة البرلمانية في البحرين.

الناس في البحرين اليوم منقسمين إلى عدة فئات؛ فئة حسمت أمرها لذلك فإنها في خانة مقاطعة الانتخابات، فئة أخرى أيضًا حسمت أمرها وهي مع الانتخابات، فئة تريد أن تنتخب ولكنها لا تعرف لمن تقدم صوتها، فئة لم تحسم أمرها بعد، وفئة رابعة وخامسة وسادسة .. الخ، كل هؤلاء – فيما عدا المجموعة الأولى – يريدون أن يقتنعوا بالتجربة البرلمانية وأن يقدموا صوتهم لمن يستحق هذا الصوت حتى يخدم الوطن، ولكن الكثير منهم لا يعرف كيف ؟ فهل قدمنا له يد العون حتى يجتاز هذا الحاجز ؟

سألت ذات يوم امرأة كبيرة في السن نوعًا ما عن مشاركتها في الانتخابات وهل ستذهب إلى صناديق الاقتراح في اليوم المحدد لتقديم صوتها، ابتسم وقالت: أكيد، فقلت لها: يا خالة أنت امرأة كبيرة في السن، وربما هذا الموضوع لا يهمك كثيرًا. قالت: يا ولدي أخاف أن يأتي يوم يقول فيه أحفادي إنه بسبب أجدادنا ماتت هذه التجربة في مهدها، أنا أقوم بهذا الفعل لأجل أن تبقى لأحفادي لعلهم يستطيعون أن يغيروا شيء في زمانهم.

هذه هي الإيجابية التي ننشدها نحن اليوم.

القضية ليست اليوم وإنما غدًا وبعد غد، ربما لم نعرف ولم نستطع نحن أن نتعامل مع هذه التجربة، فهل نقتلها في مهدها، ونولول أن البرلمان لم يفعل شيء لنا ؟ ولنتفق جدلاً إن البرلمان لم يقدم لنا شيء، ولكن بقاء البرلمان واجب والمحافظة على بقاءه فرض، وجود البرلمان بكل سلبياته اليوم أفضل بكثير من عدم وجوده.

إن الذين يريدون أن يُفشلوا التجربة فهؤلاء لا يعرفون معنى الديمقراطية، بل لا يؤمنون بها وإن كانوا يتصايحون عليها ويذرفون الدمع، هؤلاء طلاب حكم وثروة وامتداد للسلطوية، فالديموقراطية ليست كذلك.

لذلك ومن قناعة شخصية نقول إن من الإيجابية المشاركة وليست المقاطعة، فالمقاطعة سلبية.

الاثنين، 10 نوفمبر 2014

حلقة عمل – د. زكريا خنجي

في حلقة العمل البيئي لمعدي ومخرجي البرامج الإذاعية والتلفزيونية على مستوى دول مجلس التعاون الخليجي "الكوارث والأزمات" سلطنة عمان من 4 إلى 6 نوفمبر 2014

DSC_1216

DSC00307

DSC_1340

المضافات الغذائية - الصبغة الحمراء 2 جي (E128)

 

تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :١١ نوفمبر ٢٠١٤

الدكتور زكريا خنجي

تعد الصبغة الحمراء 2 جي (E128) من الصبغات الصناعية التي تندرج تحت عائلة أصباغ المعروفة بأصباغ (azo) والتي تصنع عادة من المشتقات البترولية (coal tar)، وهي من الصبغات القابلة للذوبان في الماء وقابلة أيضًا للذوبان – بصورة طفيفة – في مادة الإيثانول. وعادة تأتي الصبغة على هيئة ملح (disodium salt of 8-acetamido-1-hydroxy-2-phenylazonaphthalene-3,6 disulphonate).
وعادة ما تستخدم الصبغة الحمراء (E128) في منتجات اللحوم لأنها لا تتأثر بثاني أكسيد الكبريت (E220) و[(E224,E223)، والذي يسهم في تبييض العديد من الألوان، ولكنها لا تستخدم في المواد الغذائية أثناء إجراء عمليات التصنيع بدرجات الحرارة العالية، ولا في المنتجات عالية الحموضة، حيث إنها تتحلل إلى ما يعرف بالصبغة الأمين الحمراء (10B)، وهي صبغة مشتبه بها.
ولقد ركزت معظم الدراسات التي درست الصبغة الحمراء 2 جي (E128) حول قدرتها على التحول إلى مادة (الانيلين Aniline)، التي يمكن أن تتداخل مع الهيموجلوبين في كريات الدم الحمراء، ولقد تبين من الدراسات التي أجريت على فئران التجارب أن الفئران التي تغذت على الصبغة (E128) أصيبت بفقر الدم.
ولقد فرض الاتحاد الأوروبي حدودًا لاستخدام الصبغة (E128)، حيث سمح بإضافتها للنقانق التي يتم تناولها على الإفطار بحد لا يزيد على 6%، ولحوم البرغر المخلوطة مع الخضراوات أو مع الحبوب بنحو 4%.
ولكن، وبعد المخاوف التي أثيرت في يوليو 2007 أعدت المفوضية الأوروبية مشروع اللائحة التنظيمية لوقف استخدام (E128) في تلوين الطعام، ولقد تمت الموافقة على هذا المقترح بالإجماع من قبل الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وذلك على اعتبار أنها تتداخل مع هيموجلوبين الدم في كريات الدم الحمراء في صورة مادة الانيلين والذي يعتبر من المواد السامة، وهذه المخاوف قادت إلى أن الصبغة (E128) يمكن أن تكون مسرطنة.
ولقد منع استخدام هذه الصبغة (E128) في معظم دول الاتحاد الأوروبي إن لم يكن كلها، بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا واليابان وأستراليا.

البيئة بين القبح والجمال

 

تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :١١ نوفمبر ٢٠١٤

الدكتور زكريا خنجي

في حديث شائق مع الفنان التشكيلي إبراهيم بو سعد عبر برنامجنا الإذاعي الأسبوعي «استديو البيئة»، تحدث بو سعد عما أسماه «تنمية الثقافة الجمالية» و«تنمية الذائقة الجمالية» لدى الناشئة حتى يمكن أن يميزوا ما بين ما هو جميل وما هو قبيح، فإن تمكنت المناهج الدراسية من أن تنمي هذه الثقافة وهذه النوعية من السلوكيات في الطفل فإنه حتمًا سيرفض أي نوع من أنواع التلوث الذي يمكن مشاهدته في البيئة.
فالطفل – مثلاً – عندما يجد أن رمي المخلفات من نافذة السيارة قبح فإنه حينما يكبر ويصبح أبًا أو مدير مصنع أو مؤسسة فإنه نفسه – حتمًا – تأنف أن يقوم بتلويث البيئة أو استهلاك مواردها بطريقة غير مستدامة، وهذا هو الجانب الإنساني في المحافظة على البيئة.
والعكس أيضًا يحدث، فالطفل الذي يعيش ويحس بأن الجمال هو المحافظة على الأشجار والشجيرات وبقية الكائنات الحية التي يمكن أن يقوم بتربيتها وإطعامها فإنه – وعندما يكبر – لن يكن عنصرًا سلبيًا في البيئة التي يعيش فيها، بل حتمًا سيكون عنصرًا إيجابيًا محافظًا على البيئة وعناصرها وكائناتها.
ونحن اليوم نعرف أن هذا علم قائم بذاته يسمى «علم الجمال»، فماذا يمكن أن يحدث إن حاول المشتغلون في حقل التوعية والتعليم البيئي بدمج هذه الفروع من العلم معًا، ترى كيف يمكن أن يكون الجيل القادم ؟
معظم البرامج والأنظمة التي تسير عليها المؤسسات سواء الحكومية أو الأهلية في مجال التوعية بالبيئة لا تتعدى الأوامر والنواهي، لا تلوث البيئة، لا ترمي بالمخلفات من السيارة، اقتصد من استهلاك الماء، لا تفرط في استهلاك الكهرباء، فهل حاولنا يومًا أن نشعر الإنسان بأن ما يقوم به من تلويث للبيئة وإفراط في الموارد وإخلال بالتوازن البيئي هو في الحقيقة أوجاع وآلام تصيب الأم أو الأب؟ هل حاولنا أن نعمل ترابط ما بين البيئة والطبيعة وحياتنا وأمراضنا وآلامنا وأوجاعنا؟ هل يمكننا أن نصل بالإنسان إلى أن يشعر بأنه مربوط بهذه البيئة، وينعكس عليه آلامها وأوجاعها؟ فإن تألمت وبكت فإن جزءا منه يتألم، وإن صرخت تستغيث فإن أطرافه تتخدر!
أيها السادة، أيها المربون، أيها البيئيون، إن البيئة والإنسان وجهان لعملة واحدة، فنحن ندعو للمحافظة على البيئة حتى نحافظ على الإنسان، وإن حافظنا على الإنسان فإننا في الحقيقة نحافظ على البيئة، فأي جزء من هذه المعادلة لا نفهمه؟
لذلك أقول، كما كنت دائمًا أقول، إنه يجب أن تربط برامج التوعية والتثقيف البيئي بالجوانب الإنسانية أكثر منها من أن ترتبط بالجوانب العلمية فقط، فإن كنا نريد – فعلاً – أن نربي جيلاً من المحبين للبيئة المحافظين عليها فإنه يجب أن نربي فيهم حب البيئة والاستشعار بها، وذلك من خلال خليط من البرامج العلمية والبيئية والإنسانية.

السبت، 1 نوفمبر 2014

الهجرة العظيمة والتخطيط النبوي

 

 تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :٢ نوفمبر ٢٠١٤

بقلم: د. زكريا خنجي

ربما لا نعلم تحديدًا في أي ساعة قرر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخطط للهجرة إلى المدينة المنورة، ولكننا نعلم أن الرسول الأعظم كان يبحث للمسلمين عن دار يمكنها أن تؤويهم حتى يخفف عنهم عذابات المشركين، ونعلم أيضًا أنه صلى الله عليه وسلم كان يحادث القبائل في مواسم الحج، وخاصة بعد عودته من الطائف ويدعوهم إلى الإسلام، وكانت القبائل تجد نفسها مجبرة على عدم الإصغاء إليه ليس بسبب عدم قناعة ولكن -في الكثير من الأحيان- بسبب خوفها من قريش، حتى جاء ذلك الموسم الذي استمع فيه رهط من الخزرج لحديث رسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم، فصدقوا وآمنوا بكلامه، وذلك لأن المدينة المنورة كانت مهيأة لاستقبال الإسلام والثقافة والفكر الإسلامي بسبب ما بثه اليهود الذين كانوا يقولون للعرب «إن نبيًا مبعوثا الآن قد أطل زمانه، نتبعه فنقتلكم معه قتل عاد وإرم».
كان هذا التحريض اليهودي السلبي هو أحد الأسباب الإيجابية الذي أدخل الإسلام بسهولة إلى المدينة المنورة.
هل خطط رسول الله صلى الله عليه وسلم، في تلك اللحظة وبعد مقابلة هؤلاء الأفراد أن المدينة المنورة ستكون مقر إقامته وهجرته؟ لا نعلم.
ولكن الذي نعلمه أنه في العام الذي تلا ذلك، جاء اثنا عشر من الأنصار لملاقاته صلى الله عليه وسلم، وبايعوه بيعة العقبة الأولى، وعندما انتهى الموسم بعث معهم الصحابي الجليل مصعب بن عمير رضي الله عنه، وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين، لذلك نعتقد أن بيعة العقبة الأولى كانت الانطلاقة الحقيقية التي بدأ منها رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطط لتهيئة المدينة المنورة لتكون مدينة الإسلام، وربما كان ذلك واضحًا في بيعة العقبة الثانية -في السنة التي تلتها- وذلك من خلال حديث العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه، وكذلك حديثه صلى الله عليه وسلم حينما قال للأنصار «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم» فرد عليه البراء بن معرور «نعم، والذي بعثك بالحق نبيًا، لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا» [والأزر هم النساء والأنفس].
وحتى يستجلي أبو الهيثم بن التيهان هذا الأمر قال: «يا رسول الله، إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها -يعني اليهود- فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟».
يقول الراوي؛ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم» [بمعنى؛ إن من طلب دمكم فقد طلب دمي، وإن من أهدر دمكم فقد أهدر دمي، أما الهدم فتعني؛ أقبر حيث تقبرون وأنزل حيث تنزلون].
ومن ذلك يمكن أن نستنتج أن رسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم بدأ يضع الخطوات واللبنة الأولى للتخطيط للهجرة التي سوف تغير مجرى التاريخ. فماذا وكيف خطط؟
تتجلى قدرة النبي صلى الله عليه وسلم في الإدارة والقيادة في الكثير من مواقع حياته، ومنها قدرته صلى الله عليه وسلم في إدارة والتنظيم والتخطيط للهجرة العظيمة.
ففي الهجرة النبوية الشريفة لم يكن صلى الله عليه وسلم إداريًا فحسب وإنما كان قائدًا يدير دفة العملية بإحكام وإتقان، فإن كانت وظائف الإدارة -كما يشير إليها علماء الإدارة- خمسًا؛ وهي: التخطيط، والتنظيم، والتوظيف، والتوجيه، والرقابة، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلط تلك الوظائف بقدرته على القيادة ليجعل منها أذكى مخطط يمكن التفكير فيه أو اكتشافه.
وحتى نكون أكثر وضوحًا فإن القيادة تعني القدرة على التأثير في الناس وتوجيههم وتحفيزهم للقيام بأمر ما يوصل لتحقيق وإنجاز الأهداف. ويقول خبراء الإدارة إن القيادة تعد من أهم العناصر التي يجب توافرها في الشخص الإداري، لتكون سببًا في تحقيق الأهداف بأعلى درجات الكفاءة والفاعلية، ويعد التوجيه هو جوهر عملية القيادة.
ويمكننا أن نجزم بإن خطة الهجرة لم تكن وليدة اللحظة التي أمر فيها سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالهجرة، ولكن من الواضح أنه تم التخطيط لها فترة زمنية معينة، ربما لا نعرفها ولكن الأحداث التي جرت عليها الهجرة تشير إلى أنها لم تكن عشوائية أو وليدة اللحظة، فإن كانت قريش قد خططت بطريقة ذكية للقضاء عن النبي صلى الله عليه وسلم بحيث يتفرق دمه على القبائل فلا تستطيع بني هاشم إلا أن تقبل الدية في دمه الشريف، فكيف بحامل النبوة والمتصل بالذات الإلهية فهل يجعلها عشوائية من غير تفكير ؟ فماذا وكيف خطط رسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم؟
• فريق العمل؛ في البداية قام الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم بتشكيل فريق عمل مكون من أبي بكر الصديق وأهل بيته وعلي بن أبي طالب رضوان الله عنهم أجمعين، ويمكن أن يلاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعان بخليط من الرجال ذوي الأعمار المختلفة، بينهم شيخ كبير يقرب من عمر الرسول نفسه وهو الصديق، وكذلك بعض الشباب وامرأة، وفي هذا الموضوع قضية كبيرة لا نريد مناقشها هنا في هذا المقال.
قام فريق العمل بتنفيذ الجزء الأكبر من المخطط الذي وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في فراشه صلى الله عليه وسلم، ولم تكن تلك وظيفته فحسب وإنما كلف من قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعادة الأمانات والودائع التي كانت بحوزته صلى الله عليه وسلم إلى أصحابها بعد مغادرته أرض مكة.
استعد أبو بكر الصديق وقام بتجهيز وسيلة النقل التي ستنقلهم من مكة إلى المدينة، وكذلك قام بتوفير المبالغ اللازمة للرحلة.
وظيفة عبدالله بن أبي بكر أن يستمع الأخبار ويختلط بالناس وفي نهاية اليوم ينقلها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وظيفة ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر الصديق أن تجلب الماء والطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار.
وظيفة عامر بن فهيرة -مولى أبي بكر- أن يرعى الغنم والتي من ضمنها غنم أبي بكر الصديق على الطريق الذي يسلكه عبدالله وأسماء أبناء الصديق ليخفي آثارهما ويخلطها بآثار الأغنام، بالإضافة إلى تزويد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه بالحليب وربما باللحم والغذاء.
وظيفة عبدالله بن الأرقط -وكان مشركا- أن يقودهما إلى المدينة المنورة بطريق غير مأهول، ولا تسلكه العرب عادة.
• الخروج في الوقت غير المعتاد؛ ويمكن الملاحظة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في وقت لم يعتد الناس أن يروه فيه خارج منزله، تقول عائشة رضي الله عنها: «كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار، إما بكرة وإما عشية، حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة والخروج من مكة من بين ظهراني قومه، أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة في ساعة كان لا يأتي فيها».
• استخدام الطرق الخلفية وغير المعتادة؛ اعتاد العرب أن يسلكوا طريقًا محددًا حينما يريدون أن ينتقلوا ما بين مكة والمدينة وبالعكس، لذلك فإنه صلى الله عليه وسلم لم يسلك ذلك الطريق، وإنما استعان بمرشد ليأخذه في طريق غير مأهول ولا تسلكه العرب عادة.
• المبيت والاختباء ثلاثة أيام؛ لم يرحل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد مغادرته مكة إلى المدينة مباشرة، وإنما ظل في الغار والمنطقة المحيطة بالغار مدة ثلاثة أيام، وذلك حتى تهدأ نفوس أهل مكة وتهدأ المطاردة في هذه المنطقة، وعندما علم أن أهل مكة يئسوا من البحث في هذه المنطقة وولوا وجوههم في اتجاه آخر خرج متوجهًا إلى المدينة.

ويمكن الملاحظة أيضًا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستغل فريق العمل سواء في مالهم وجهدهم، وإنما دفع ثمن كل شيء، فقد روى ابن هشام في سيرته أنه قال: «فلما قرب أبو بكر رضي الله عنه الراحلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم له أفضلهما، ثم قال: اركب، فداك أبي وأمي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أركب بعيرًا ليس لي. قال: فهي لك يا رسول الله، بأبي أنت وأمي. قال: لا، ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به؟ قال: كذا وكذا. قال: قد أخذتها به. قال: هما لك يا رسول الله».
وكذلك عندما بلغوا خيمة أم معبد التي سألوها شراء شيء يأكلونه، ولم يكن عندها شيء، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم شاة لها هزيلة، فاستأذنها في حلبها، فلم تمانع، فوضع يده على ظهرها وسمى الله ثم دعا بالبركة، فامتلأ ضرعها لبنًا، فسقاها حتى رويت وسقى أصحابه حتى رووا وشرب آخرهم صلى الله عليه وسلم، ثم أراضوا ثم حلب فيها ثانيًا بعد بدء حتى ملأ الإناء ثم غادره عندها ثم بايعها وارتحلوا عنها.

إذن باختصار يمكن الملاحظة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مارس كل الوظائف الإدارية التي تكلم عنها علماء الإدارة، من أجل الهجرة من مكة إلى المدنية، فهو صلى الله عليه وسلم قام بعملية التخطيط للهجرة، وقام بتنظيمها، ووظف فريق عمل ليقوم بالتنفيذ، ومن الطبيعي أنه قام بتوجيه الفريق حتى تتم العملية على أكمل وجه، وأخيرًا راقب تنفيذ العملية حتى لا تفشل، بالإضافة إلى أنه كان القائد الذي يدير العملية كلها، حتى بلغوا المدينة المنورة بسلام.
ولكن يبقى سؤال؛ ألم يكن أسهل للنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه وفريق العمل أن ينقله الله تعالى كما أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بلمح البصر؟ لماذا كل هذا التخطيط وهذا الجهد وهذا الزمن الذي استغرق في هذه الرحلة؟
سؤال أتمنى أن تجيبوا عليه أنتم.

السبت، 25 أكتوبر 2014

التغافل .. لغة نحتاج إلى فهمها

 

 تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :٢٦ أكتوبر ٢٠١٤

بقلم: د. زكريا خنجي

يروى أنه دخل رجل على الأمير المجاهد قتيبة بن مسلم الباهلي، فكلمه في حاجة له، وأثناء ذلك وضع الرجل نصل سيفه على الأرض فجاء على أصبع رجل الأمير، وجعل يكلمه في حاجته وقد أدمى النصلُ أصبع الأمير، والرجل لا يشعر، والأمير لا يظهر ما أصابه، وجلساء الأمير لا يتكلمون هيبة له، فلما فرغ الرجل من حاجته وانصرف دعا قتيبة بن مسلم بمنديل فمسح الدم من أُصبعه وغسله، فقيل له: ألا نحَّيت رجلك أصلحك الله، أو أمرت الرجل برفع سيفه عنها، فقال: خشيت أن أقطع عنه حاجته.
يقول راوي الحكاية: فلقد كان في قدرة الأمير أن يأمره بإبعاد نصل سيفه عن قدمه، وليس هنالك من ملامة عليه، أو على الأقل أن يبعد الأمير قدمه عن نصل سيفه، ولكنه أدب التغافل حتى لا يقطع على الرجل حديثه، وبمثل هذه الأخلاق ساد أولئك الرجال.
ونعني بالتغافل تعمّد الغفلة، أي أن يراه الآخر أنه غافل، إلا أنه في الحقيقة يعلم تمام العلم بما يحيط به ومدرك لما يتغافل عنه؛ وذلك تكرمًا وترفعًا عن سفاسف الأمور. فالمتغافل يتعمد الغفلة عن أخطاء وعيوب من حوله، مع أنه مدركٌ لها، عالمٌ بها؛ لكنه يتغافل عنها كأنه لم يعلم بها؛ لكرم خلقه.
وقد ذكر ابن الأثير متحدثًا عن صلاح الدين الأيوبي أنه «كان صبورًا على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره، ولا يعلمه بذلك، ولا يتغير عليه. وبلغني أنه كان جالسًا وعنده جماعة، فرمى بعض المماليك بعضًا بسرموز– يعني بنعل – فأخطأته، ووصلت إلى صلاح الدين فأخطأته، ووقعت بالقرب منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسه؛ ليتغافل عنها».
والتغافل – كما قال حسن البصري – من فعل الكرام، وهو «تسعة أعشار حسن الخلق» كما قال الإمام أحمد بن حنبل، وذلك بسبب أن الإنسان الذي يتمتع بأدب التغافل يترفع عن سفاسف الأمور.
فالمدير – مثلاً – يجب أن يتجاوز عن موظفيه إن هم قصروا بشيء ما، فلا يستقصي مكامن تقصيرهم فيبرزها لهم ليلومهم ويحاججهم عليها، ولا يذكرهم بحقوقه الواجبة عليهم تجاهه عند كل زلّة، وإنما يتغافل عن اليسير وهو يعلمه، ليس ذلك فحسب وإنما إن أمكن يحاول أن يرشدهم إلى فعل الصواب.
وكيف يكون حال الأب أو الأم الذي يعاقب الابن أو البنت على كل خطأ ثم يفكر في تعليمه بعد ذلك؟ كيف سينشأ هذا الطفل وهل يتقبل النصح بعد العتاب والتجريح وربما الضرب؟ حتمًا سينشأ محملاً بالجروح والاهانات وتنعدم سبل التواصل بينه وبين والديه. هذا هو الحال مع أب وابنه أو أم وابنتها، فكيف سيكون الحال بين زوج وزوجته؟
في مجتمعنا العربي الزوج يختار زوجته وهو يحلم أن تكون مثالية جدا، وينتظر أن تفعل له ما يريد، وأن تقوم بما يحب، وكأنها تعلم بما في نفسه أو خلقها الله شاذة عن الخلق الذين جبلوا على الخطأ، وعندما يعيشان معًا تبدأ المشاكل، والسبب كثرة الانتقاد والمحاسبة وقلة التشجيع والاهتمام، وما ينطبق على الزوج ينطبق على الزوجة كذلك.
وتروي كتب التربية هذه الحكاية على لسان أحد الأبناء، فيقول:
بعد يوم طويل وصعب من العمل وضعت أمي طعام العشاء أمام أبي على الطاولة، وبجانبه خبز محمص لكن الخبز كان محروقًا تمامًا.
أتذكر أنني ارتقبت طويلاً كي يلحظ أبي ذلك، ولا أشك على الإطلاق أنه لاحظه إلا أنه مدّ يده إلى قطعة الخبز، وابتسم لوالدتي، وسألني كيف كان يومي في المدرسة؟ لا أتذكرُ بم أجبته لكنني أتذكر أني رأيتهُ يدهنُ قطعة الخبز بالزبدة والمربى ويأكلها كلها.
عندما نهضتُ عن طاولة الطعام تلك الليلة، أتذكر أني سمعتُ أمي تعتذر لأبي عن حرقها للخبز وهي تحمصهُ، ولن أنسى رد أبي على اعتذار أمي حينما قال: لا تكترثي يا حبيبتي بذلك، أنا أحب أحيانًا أن آكل الخبز محمصًا زيادة عن اللزوم وأن يكون به طعم الاحتراق.
وفي وقت لاحق تلك الليلة عندما ذهبتُ لأقبل والدي قبلة تصبح على خير، سألته إن كان حقًا يحب أن يتناول الخبز أحيانًا محمصًا إلى درجة الاحتراق فضمني إلى صدره، وقال لي:
يا بني، أمك اليوم كان لديها عمل شاق وقد أصابها من التعب والإرهاق في يومها الشيء الكثير، فهل نرهقها ونعاتبها بسبب قطعة خبز محترقة بعض الشيء؟ إن قطعًا من الخبز المحمص زيادة عن اللزوم أو حتى محترقة لن تضرّ حتى الموت.
إن الحياة يا بني مليئة بالأشياء الناقصة، وليس هناك شخص كامل لا عيب فيه، علينا أن نتعلم كيف نقبل النقصان في الأمور، وأن نتقبل عيوب الآخرين، وهذا من أهم الأمور في بناء العلاقات وجعلها قوية مستديمة. خبز محمص محروق قليلاً لا يجب أن يكسر قلبًا جميلاً فليعذر أحدنا الآخر، ولا نظن بالآخرين إلا خيرًا فنحن لا نعرف ظروف الآخرين. أ. هـ
فالبشر جبلوا على الخطأ، والخطأ من الجهتين، المتحدث والمستمع، فمن غير الحكمة أن ننتظر من الناس أن يفعلوا ما نريد أو أن يقولوا ما نريد، بل يجب أن نتعامل مع الناس معاملة واقعية مرنة تأخذ في حسبانها الطبيعة البشرية التي جبلت عليها، كما أننا في الكثير من الأحيان قد لا نفهم الكلمة التي تخرج من فم الإنسان المتحدث أو ربما نعيد صياغتها في أذهاننا وذلك لحاجة في نفوسنا.
قال الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لا تظنَّ بكلمة خرجت من أخيك كالمؤمن إلا خيرًا، وأنت تجد لها في الخير محملاً». وقال جعفر بن محمد: «إذا بلغك عن أخيك الشيء تنكره فالتمس له عذرًا واحدًا إلى سبعين عذرًا، فإن أصبته وإلا، قل لعل له عذرًا لا أعرفه».
وقال الإمام ابن القيم: «من أساء إليك ثم جاء يعتذر من إساءته، فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته، حقًا كانت أو باطلاً، وتوكل سريرته إلى الله»، ويواصل ويقول: «وعلامة الكرم والتواضع أنك إذا رأيت الخلل في عذره لا توقفْه عليه ولا تحاجّه، وقل: يمكن أن يكون الأمر كما تقول، ولو قضي شيء لكان، والمقدور لا مدفع له ونحو ذلك».
وعلى الرغم من ذلك، فإننا يجب أن ندرك ثلاثة أمور تتعلق بالتغافل، حتى لا نسيء فهم هذا الأدب الرفيع وكذلك حتى لا نسيء إلى أنفسنا، وهي:
1- هناك التغافل عن السلبيات، وهذه سمة إيجابية مقبولة ومرغوبة.
2- وهناك تغافل عن الإيجابيات، وهذه سمة سلبية غير مقبولة وغير مرغوبة.
3- وفي مواقف أخرى يكون من الحماقة أن نتغافل عن الخطأ، فليس من الحكمة الاستمرار بالتغافل الكامل عن الخطأ المستمر أو المتعمد، ففي هذه الحالة فإننا نحتاج إلى تدخل سريع للتنبيه إلى سلوك معين، وذلك من أجل وقف الضرر القائم وربما إحقاق الحق.

الخلاصة: أن نتغافل عن الأخطاء البسيطة من البشر وخاصة من الناس الذين يعيشون حولنا ونتعايش معهم ونحبهم، ولكن حتى هؤلاء إن تمادوا في الخطأ فإنه من الواجب أن نوجههم ونرشدهم إلى الخطأ ولكن بعيدًا عن التأنيب والإذلال.
أما الأشخاص الذين يتعمدون الخطأ في حقنا ويستمرون في الخطأ مع علمهم أن ذلك خطأ فإن ذلك يحتاج منا إلى وقفة، توقفهم عند حدّهم، فليس من الحكمة أن نتغافل عن تاجر يحاول أن يغشنا في البيع أو سارق أو محتال ونحن ندرك أنه يقوم بذلك.

الأحد، 19 أكتوبر 2014

دور العلاقات العامة في بناء الصورة الذهنية للمؤسسات

 

تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :١٩ أكتوبر ٢٠١٤

بقلم: د. زكريا خنجي

هناك حقيقة ثابتة لا يمكن إغفالها في دراسة الشخصية ألا وهي «الفردية»، أي أن التفرد يجب أن يكون هو السمة المميزة لكل فرد، أو لكل مؤسسة.
فكلنا يعلم إن الإنسان مخلوق فريد من نوعه ما بين الكائنات، ليس ذلك فحسب وإنما من المستحيل أن نجد شخصيتين متشابهتين تمام التشابه، حتى التوائم، والناس في تفردهم أشبه ببصمات الأصابع، فمن المستحيل أن نجد بصمتين متشابهتين لشخصين مختلفين.
وعلم نفس الشخصية يركز اهتمامه على الفردية المميزة لهذا الشخص عن ذاك الآخر أو هذه المؤسسة عن تلك. فنحن حين نقوم بدراسة الشخصية لا نكون في الحقيقة إزاء شخص مجرد بإزاء شخص محدد بالذات، أي إزاء فرد يعتبر مشكلة بالنسبة لنا، كما أن حل هذه المشكلة تكمن في هذا الفرد بالذات. فالخاصية المميزة للإنسان هي فرديته، أعني اعتباره مخلوقًا فريدًا في الطبيعة، وأنه مستقل مكانيًا عن غيره من الأفراد ولا يشبه تمامًا أي فرد آخر، وأنه يسلك في مجاله الخاص في الحياة، وعلى طريقته الخاصة، وأنه يخضع في سلوكه لعوامل متعددة كالجينات والتكوينات البيولوجية والغددية والتي تختلف اختلافًا كبيرًا من شخص لآخر، هذا بالإضافة إلى اختلاف الظروف البيئية التي يعيش فيها، وهذا كله من شأنه أن يجعل النمط مميزًا فريدًا لكل فرد.
ومعنى ذلك أن المعرفة السيكولوجية لا يمكنها بحال من الأحوال أن تغفل دراسة الفردية، وإلا فإنها لا تصبح معرفة سيكولوجية بالمعنى الدقيق، طالما أن كل سلوك هو سلوك فرد بالذات، ندخل معه في علاقات وصلات، سلوكي وسلوكك باعتباري أو باعتبارك شخصية متميزة مستقلة عن الآخرين. وهذا بالضبط ما ينطبق على سيكولوجية الصورة الذهنية للمؤسسات، فالتفرد لدى المؤسسات هي القضية المحددة التي يجب أن ينظر إليها عندما نخطط لرسم الصورة الذهنية لها، فمثلاً:
1- ما أبعاد مؤسستنا؟
2- ماذا تقدم للجمهور؟
3- ما تنظيمها الداخلي؟
4- كيف تخاطب الجمهور العام والجمهور الخاص؟
5- ما حاجة المجتمع لمنتجاتنا؟
ما القيمة المضافة التي تقدمها مؤسستنا للمجتمع ولم تتمكن المؤسسات الأخرى من تقديمها؟
ومثل هذه الأسئلة وغيرها يجب أن تطرح، ونحن نفكر في الصورة الذهنية وهي التي يمكن أن تضع لنا مؤشر واضح للصورة الذهنية وسيكولوجيتها.
وينظر إلى الصورة الذهنية للمؤسسات على أنها واحدة من الأصول الاستراتيجية التي تقود إلى إيجاد ميزة تنافسية وظروف مشجعة للبقاء والتطور للمنظمة. ويستخدم الكثير من الكتاب مصطلحا «الصورة الذهنية والشهرة» على أنهما متماثلين في حين ذهب آخرون إلى اختلاف المفهومين في أن الصورة الذهنية قد تتضمن معاني سلبية وفيها اختلاق وصيانة ولا تنم عن الحقيقة. ومنهم من يستعمل هوية المنظمة بدلاً من الصورة الذهنية الذاتية، وإدارة الانطباع بدلاً من الصورة الذهنية المتوقعة، وأما كلمة الشهرة فيستعملونها بدلاً من الصورة الذهنية المدركة.
وعلى الرغم من ذلك فإن شخصية المؤسسة تصنع من خلال رؤية هذه المنظمة، الرسالة، التوجه، الأسلوب الإداري، التاريخ، والأهداف. وهذه الشخصية هي التي تشكل هوية المؤسسة، وهي مجموعة من الرموز التي تستخدمها المؤسسة لتعرف بها نفسها للناس مثل المنتجات، الخدمات، الشعار، البنايات، وغيرها. وكل هذه الإشارات هي التي تصنع الصورة الذهنية للمؤسسة. لذلك فإن الصورة الذهنية تعتبر مجموعة من الانطباعات عند الجمهور لهذه المؤسسة، وبمجرد أن تتكون الصورة الذهنية بطريقة إيجابية تتكون الشهرة.
ونعتقد أن لكل مؤسسة صورة ذهنية، وأن الصورة الذهنية الجيدة لها تأثير كبير على نجاح المؤسسات، حيث إن الصورة الذهنية قادرة على إيجاد قيمة وأن لها تأثير على سلوك المستهلك حيث تتضمن إدراكا معينا لديهم، وقد لا يعكس هذا الإدراك الحقيقة الموضوعية، كما تسهم الصورة الذهنية للمؤسسات في تحسين السلوك والمواقف الفردية عند الموظفين.
وبما أن الصورة الذهنية تؤثر في سلوك أصحاب المصلحة، فإن المؤسسات تكافح من أجل تطوير وإدارة صورها الذهنية وذلك للعديد من الأسباب والتي تشمل: تنشيط المبيعات، ترسيخ النوايا الحسنة للمؤسسة، خلق هوية للموظفين، التأثير في المستثمرين والمؤسسات المالية، تعزيز علاقات ايجابية مع المجتمع والحكومة، ومجموعات المصلحة الخاصة وقادة الرأي وآخرون من أجل تحقيق وضع تنافسي.
ونعلم اليوم أن بناء الصورة الذهنية عملية ثقافية تتطلب رؤية واضحة وذهنًا يستوعب المستجدات وإدراكًا سليمًا للقيم الثابتة والقيم المتغيرة في المجتمع، ولا تتطلب بالضرورة زيادة معلومات ولا تخصصًا، فكم من عوام صاروا تجارًا أو بارزين في الفنون والمهن وبنوا لأنفسهم ولمؤسساتهم صورة ذهنية إيجابية بسبب وضوح الرؤية لديهم ولأنهم يملكون ذهنيات منفتحة، لذلك فهي عملية تحتاج إلى وقت طويل وجهد قليل، ورؤية واضحة وعقول منفتحة تستطيع أن تلم بأوجه نشاطات الوزارة أو المؤسسة وتحديد المسار الرئيس والهدف الأهم ليسهل تحديد هويتها التي تعاني من أزمة، والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية غير محصنة من أي حملة تشويه سمعة، كما أنها غير محصنة من بروز قيادي بارع يستأثر بهذا التراث الضخم من السمعة الجيدة المهملة في ظل استمرار تجاهل إعلامها وعلاقاتها العامة لأهمية بناء الصورة الذهنية وإدارة السمعة.
ويرى «بول جاريت» أحد رواد العلاقات العامة والذي تولى مسؤوليتها في شركة جنرال موتورز الأمريكية عام 1931 أن (العلاقات العامة ليست وسيلة دفاعية لجعل المؤسسة تبدو في صورة مخالفة لصورتها الحقيقية، وإنما هي الجهود المستمرة من جانب الإدارة لكسب ثقة الجمهور من خلال الأعمال التي تحظى باهتمامه واحترامه)، وإن العلاقات العامة ينبغي أن تكون تعبيرًا صادقًا عن الواقع كما أنها لابد أن تسمو إلى الدرجة التي تحظى باحترام الجمهور.
فإذا كان الواقع سيئا أو تشوبه بعض الشوائب فينبغي تنقية هذا الواقع وتدارك ما به من أخطاء بدلاً من محاولة إخفائها أو تزييفها بكلمات معسولة سرعان ما يزول أثرها وينكشف زيفها، كما ينبغي أن تسهم العلاقات العامة في مواجهة المشكلات التي تؤثر على الجمهور من خلال الأعمال البناءة والجهود الحقيقية الهادفة إلى تحقيق الرخاء والرفاهية للمجتمع.
وقد كان هذا المبدأ أحد المبادئ الرئيسية التي أرساها أبو العلاقات العامة الحديثة «إيفي لي» حينما أخذ على عاتقه تغيير الصورة السيئة التي تكونت عن رجل الأعمال الأمريكي «روكفلر» الذي كان هو وابنه أكثر أغنياء أمريكا تعرضًا للنقد واتهامًا بالجشع؛ فقد كان روكفلر سخيًا في تبرعاته للجمعيات الخيرية وللكنائس ولأطفال المدارس، ولكنه كان جافًا في تعامله مع الصحفيين ولا يبالي بحملات النقد التي توجه إليه فكانت نصيحة ايفي لي الأساسية أن يتخلى هذا الرجل عن غلظته، وأن يحسن معاملة الصحفيين ويتودد إليهم، كما أوضح الجانب الإنساني الذي لم يكن غريبًا على روكفلر ولكنه لم يكن معلنًا للجمهور، وهذا هو المبدأ الذي ارساه ايفي لي، وهو أنه لا يكفي أن تفعل الخير وإنما لابد أن يعلم الناس ما تفعله من خير، كما أن الصورة الذهنية الإنسانية لأي فرد لا تتحقق إلا من خلال مشاركته الاجتماعية مع من حوله، ونجح ايفي لي في أن يغير صورة روكفلر بهذه الطريقة فكان أول ما فعله هو الاتفاق مع أحد الصحفيين على أن يلاعب روكفلر الجولف ولم يمض وقت طويل حتى بدأت صورة الرجل تظهر في الصحف وهو يلعب الجولف بتواضع ومرح ويتردد على الكنائس ويمنح الهبات للمحتاجين ويداعب الأطفال.
ولم يكن ايفي لي بهذه الطريقة يتجاوز حقيقة روكفلر أو يضفي عليه ما ليس من خصاله وإنما ينقل الصورة الحقيقية إلى الجمهور بدلاً من الصورة الزائفة التي لم تكن تعبر عن واقع الرجل وسلوكه، وهذا ما التزم به ايفي لي طوال حياته، وهو نقل الصورة الحقيقة الصادقة لأي فرد أو منظمة إلى الجمهور، وشتان ما بين هذا المبدأ وبين ما يسعى إليه بعض الدخلاء على مهنة العلاقات العامة من محاولات لخلق صورة مشرقة لفرد معين أو منشأة ما، بغض النظر عن واقع ذلك الفرد أو تلك المنظمة، وهو ما يتنافى مع قيم العلاقات العامة وأخلاقياتها وقد أعلنها فولتير صريحة مدوية حين قال «إن الطريقة الوحيدة التي تجعل بها الناس يتحدثون عنك بصورة حسنة هي أن تتصرف بطريقة طيبة».
وهذا بالضبط ما لخصه المولى سبحانه و تعالى في سورة البقرة في الآيات التالية حين قال: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)).

الثلاثاء، 14 أكتوبر 2014

رسالة موجهة إلى سعادة وزير شئون البلديات والتخطيط العمراني

 

تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :١٤ أكتوبر ٢٠١٤

بقلم: الدكتور زكريا خنجي

ربما بعد خمسة أشهر من مقالنا الثاني الذي كان بعنوان (بلدية المحرق.. أذن من طين وأذن من عجين) والذي نشر بتاريخ 3 يونيو 2014 يحق لنا أن نوجه خطابنا ومقالنا هذه المرة إلى سعادة وزير شئون البلديات والتخطيط العمراني نفسه.
وللأمانة والحقيقة نقول إنه بعد أن نشر المقال يوم الثلاثاء اتصلت بي أخت فاضلة من بلدية المحرق، واستعلمت عن الموضوع، وبعدها بيومين جاء وفد من البلدية لمعاينة مشكلة المنطقة الخدمية في عراد، وبعدها بحوالي أسبوعين حضر عدد من المفتشين ووضع أوراقا لاصقة (استكرات) على السيارات الواقفة لعدة شهور والمغبرة، ثم غادروا، وبعدها بأسبوع قام أصحاب الكراجات وورش العمل بإزالة كل الاستكرات، وكأن الموضوع لم يكن، وتوقف الموضوع هنا بالتحديد، ولم تعاود بلدية المحرق بمتابعة الموضوع مرة أخرى حتى كتابة هذا المقال.
يا سعادة الوزير..
منطقة عراد الخدمية – وحتى نعطي المصطلحات حقها ولا نقول إنها كارثة – فهي تعد مشكلة بيئية، وتحتاج من البلديات الاهتمام بها ودراستها ووضع حلول آنية وجذرية للمشكلة، فالسيارات القديمة والتي لا تعمل توضع في الشوارع المحيطة بالمنازل السكنية لتستخدم كمخازن لقطع الغيار، بالإضافة إلى أن تلك الكراجات والتي ما رخصت إلا لتستوعب سيارة واحدة تستقبل في اليوم عدة سيارات وتضعها خارج الورشة فيقوم العاملون بفك السيارة وتصليحها خارج الورشة.
بعض ورش العمل مثل ورش تصليح الجتسكي والدراجات النارية ولضيق مكانها فإنها تركن تلك الأجهزة بين المنازل وخلفها، وكذلك بعض معارض السيارات تعرض سياراتها الجديدة في الهواء الطلق وأمام كل المارة من غير حسيب أو رقيب.
فتصور – يا سعادة الوزير – تلك الفوضى العارمة في منطقة عراد الخدمية، ونحن حتى لا نتبلى على أحد فإننا ننشر مع هذا المقال جزءا يسيرا من الصور التي أخذت من عدة شوارع في تلك المنطقة.
علمًا أن سكان المنطقة يشتكون بل ويعانون من هذه الفوضى العارمة، فلا أحد يستمع ولا أحد يريد أن يتدخل، ومن الجدير بالذكر أن الكثير من سكان المنطقة ترك منزله وغادر إلى مناطق أخرى بسبب كل تلك الفوضى والمواد الكيميائية التي تنثر في الهواء عندما يتم تنظيف السيارات والأجهزة فتدخل من غير أذن إلى الأجهزة التنفسية التي غدت تعاني من الكثير من المشاكل، وكذلك تداخل المنطقة الخدمية التي بدأت تزحف على المنازل، ترى من أعطاها هذه الصلاحيات؟ وكيف امتدت المنطقة الخدمية لتدخل إلى داخل أنفاس البشر؟
وللأسف فإن مثل تلك المحلات ترخص، وبعدما ترخص يضرب بالاشتراطات والقوانين عرض الحائط، فالمنطقة غير خاضعة لرقابة البلدية أو أي جهة أخرى، لذلك يحلو للقائمين على تلك الورش عمل ما يريدون لأنهم يعرفون أنه لا أحد يقوم بما هو المفترض القيام به، والغريب أنني أتساءل دائمًا، كيف تدار مثل هذه المناطق في فرنسا وسويسرا والهند وماليزيا وبقية دول العالم؟ هل تعيش كل تلك الدول بمثل هذه الفوضى؟
ونحن نعلم يا سعادة الوزير أن نقل المنطقة الخدمية إلى مكان آخر ضرب من الخيال، ولكننا نطمح – فقط – في تنظيم المنطقة وإدارتها ومراقبتها وعدم إهمالها وتركها للمخالفين.
عذرًا سعادة الوزير، فلولا ثقتنا بكم ومعرفة حرصكم على المحافظة على البيئة الخالية من الملوثات، وسعيكم الدائم لتوفير البيئة المناسبة للمواطن وتوفير الخدمات اللازمة له لما توجهنا إلى سعادتكم بهذا المقال.
طبتم وطاب مسعاكم لتوفير أفضل الخدمات للمواطنين.

 

Foto8-1

Foto8-2

Foto8-3

Foto8-4

Foto8-5

Foto8-6