الأحد، 19 أكتوبر 2014

دور العلاقات العامة في بناء الصورة الذهنية للمؤسسات

 

تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :١٩ أكتوبر ٢٠١٤

بقلم: د. زكريا خنجي

هناك حقيقة ثابتة لا يمكن إغفالها في دراسة الشخصية ألا وهي «الفردية»، أي أن التفرد يجب أن يكون هو السمة المميزة لكل فرد، أو لكل مؤسسة.
فكلنا يعلم إن الإنسان مخلوق فريد من نوعه ما بين الكائنات، ليس ذلك فحسب وإنما من المستحيل أن نجد شخصيتين متشابهتين تمام التشابه، حتى التوائم، والناس في تفردهم أشبه ببصمات الأصابع، فمن المستحيل أن نجد بصمتين متشابهتين لشخصين مختلفين.
وعلم نفس الشخصية يركز اهتمامه على الفردية المميزة لهذا الشخص عن ذاك الآخر أو هذه المؤسسة عن تلك. فنحن حين نقوم بدراسة الشخصية لا نكون في الحقيقة إزاء شخص مجرد بإزاء شخص محدد بالذات، أي إزاء فرد يعتبر مشكلة بالنسبة لنا، كما أن حل هذه المشكلة تكمن في هذا الفرد بالذات. فالخاصية المميزة للإنسان هي فرديته، أعني اعتباره مخلوقًا فريدًا في الطبيعة، وأنه مستقل مكانيًا عن غيره من الأفراد ولا يشبه تمامًا أي فرد آخر، وأنه يسلك في مجاله الخاص في الحياة، وعلى طريقته الخاصة، وأنه يخضع في سلوكه لعوامل متعددة كالجينات والتكوينات البيولوجية والغددية والتي تختلف اختلافًا كبيرًا من شخص لآخر، هذا بالإضافة إلى اختلاف الظروف البيئية التي يعيش فيها، وهذا كله من شأنه أن يجعل النمط مميزًا فريدًا لكل فرد.
ومعنى ذلك أن المعرفة السيكولوجية لا يمكنها بحال من الأحوال أن تغفل دراسة الفردية، وإلا فإنها لا تصبح معرفة سيكولوجية بالمعنى الدقيق، طالما أن كل سلوك هو سلوك فرد بالذات، ندخل معه في علاقات وصلات، سلوكي وسلوكك باعتباري أو باعتبارك شخصية متميزة مستقلة عن الآخرين. وهذا بالضبط ما ينطبق على سيكولوجية الصورة الذهنية للمؤسسات، فالتفرد لدى المؤسسات هي القضية المحددة التي يجب أن ينظر إليها عندما نخطط لرسم الصورة الذهنية لها، فمثلاً:
1- ما أبعاد مؤسستنا؟
2- ماذا تقدم للجمهور؟
3- ما تنظيمها الداخلي؟
4- كيف تخاطب الجمهور العام والجمهور الخاص؟
5- ما حاجة المجتمع لمنتجاتنا؟
ما القيمة المضافة التي تقدمها مؤسستنا للمجتمع ولم تتمكن المؤسسات الأخرى من تقديمها؟
ومثل هذه الأسئلة وغيرها يجب أن تطرح، ونحن نفكر في الصورة الذهنية وهي التي يمكن أن تضع لنا مؤشر واضح للصورة الذهنية وسيكولوجيتها.
وينظر إلى الصورة الذهنية للمؤسسات على أنها واحدة من الأصول الاستراتيجية التي تقود إلى إيجاد ميزة تنافسية وظروف مشجعة للبقاء والتطور للمنظمة. ويستخدم الكثير من الكتاب مصطلحا «الصورة الذهنية والشهرة» على أنهما متماثلين في حين ذهب آخرون إلى اختلاف المفهومين في أن الصورة الذهنية قد تتضمن معاني سلبية وفيها اختلاق وصيانة ولا تنم عن الحقيقة. ومنهم من يستعمل هوية المنظمة بدلاً من الصورة الذهنية الذاتية، وإدارة الانطباع بدلاً من الصورة الذهنية المتوقعة، وأما كلمة الشهرة فيستعملونها بدلاً من الصورة الذهنية المدركة.
وعلى الرغم من ذلك فإن شخصية المؤسسة تصنع من خلال رؤية هذه المنظمة، الرسالة، التوجه، الأسلوب الإداري، التاريخ، والأهداف. وهذه الشخصية هي التي تشكل هوية المؤسسة، وهي مجموعة من الرموز التي تستخدمها المؤسسة لتعرف بها نفسها للناس مثل المنتجات، الخدمات، الشعار، البنايات، وغيرها. وكل هذه الإشارات هي التي تصنع الصورة الذهنية للمؤسسة. لذلك فإن الصورة الذهنية تعتبر مجموعة من الانطباعات عند الجمهور لهذه المؤسسة، وبمجرد أن تتكون الصورة الذهنية بطريقة إيجابية تتكون الشهرة.
ونعتقد أن لكل مؤسسة صورة ذهنية، وأن الصورة الذهنية الجيدة لها تأثير كبير على نجاح المؤسسات، حيث إن الصورة الذهنية قادرة على إيجاد قيمة وأن لها تأثير على سلوك المستهلك حيث تتضمن إدراكا معينا لديهم، وقد لا يعكس هذا الإدراك الحقيقة الموضوعية، كما تسهم الصورة الذهنية للمؤسسات في تحسين السلوك والمواقف الفردية عند الموظفين.
وبما أن الصورة الذهنية تؤثر في سلوك أصحاب المصلحة، فإن المؤسسات تكافح من أجل تطوير وإدارة صورها الذهنية وذلك للعديد من الأسباب والتي تشمل: تنشيط المبيعات، ترسيخ النوايا الحسنة للمؤسسة، خلق هوية للموظفين، التأثير في المستثمرين والمؤسسات المالية، تعزيز علاقات ايجابية مع المجتمع والحكومة، ومجموعات المصلحة الخاصة وقادة الرأي وآخرون من أجل تحقيق وضع تنافسي.
ونعلم اليوم أن بناء الصورة الذهنية عملية ثقافية تتطلب رؤية واضحة وذهنًا يستوعب المستجدات وإدراكًا سليمًا للقيم الثابتة والقيم المتغيرة في المجتمع، ولا تتطلب بالضرورة زيادة معلومات ولا تخصصًا، فكم من عوام صاروا تجارًا أو بارزين في الفنون والمهن وبنوا لأنفسهم ولمؤسساتهم صورة ذهنية إيجابية بسبب وضوح الرؤية لديهم ولأنهم يملكون ذهنيات منفتحة، لذلك فهي عملية تحتاج إلى وقت طويل وجهد قليل، ورؤية واضحة وعقول منفتحة تستطيع أن تلم بأوجه نشاطات الوزارة أو المؤسسة وتحديد المسار الرئيس والهدف الأهم ليسهل تحديد هويتها التي تعاني من أزمة، والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية غير محصنة من أي حملة تشويه سمعة، كما أنها غير محصنة من بروز قيادي بارع يستأثر بهذا التراث الضخم من السمعة الجيدة المهملة في ظل استمرار تجاهل إعلامها وعلاقاتها العامة لأهمية بناء الصورة الذهنية وإدارة السمعة.
ويرى «بول جاريت» أحد رواد العلاقات العامة والذي تولى مسؤوليتها في شركة جنرال موتورز الأمريكية عام 1931 أن (العلاقات العامة ليست وسيلة دفاعية لجعل المؤسسة تبدو في صورة مخالفة لصورتها الحقيقية، وإنما هي الجهود المستمرة من جانب الإدارة لكسب ثقة الجمهور من خلال الأعمال التي تحظى باهتمامه واحترامه)، وإن العلاقات العامة ينبغي أن تكون تعبيرًا صادقًا عن الواقع كما أنها لابد أن تسمو إلى الدرجة التي تحظى باحترام الجمهور.
فإذا كان الواقع سيئا أو تشوبه بعض الشوائب فينبغي تنقية هذا الواقع وتدارك ما به من أخطاء بدلاً من محاولة إخفائها أو تزييفها بكلمات معسولة سرعان ما يزول أثرها وينكشف زيفها، كما ينبغي أن تسهم العلاقات العامة في مواجهة المشكلات التي تؤثر على الجمهور من خلال الأعمال البناءة والجهود الحقيقية الهادفة إلى تحقيق الرخاء والرفاهية للمجتمع.
وقد كان هذا المبدأ أحد المبادئ الرئيسية التي أرساها أبو العلاقات العامة الحديثة «إيفي لي» حينما أخذ على عاتقه تغيير الصورة السيئة التي تكونت عن رجل الأعمال الأمريكي «روكفلر» الذي كان هو وابنه أكثر أغنياء أمريكا تعرضًا للنقد واتهامًا بالجشع؛ فقد كان روكفلر سخيًا في تبرعاته للجمعيات الخيرية وللكنائس ولأطفال المدارس، ولكنه كان جافًا في تعامله مع الصحفيين ولا يبالي بحملات النقد التي توجه إليه فكانت نصيحة ايفي لي الأساسية أن يتخلى هذا الرجل عن غلظته، وأن يحسن معاملة الصحفيين ويتودد إليهم، كما أوضح الجانب الإنساني الذي لم يكن غريبًا على روكفلر ولكنه لم يكن معلنًا للجمهور، وهذا هو المبدأ الذي ارساه ايفي لي، وهو أنه لا يكفي أن تفعل الخير وإنما لابد أن يعلم الناس ما تفعله من خير، كما أن الصورة الذهنية الإنسانية لأي فرد لا تتحقق إلا من خلال مشاركته الاجتماعية مع من حوله، ونجح ايفي لي في أن يغير صورة روكفلر بهذه الطريقة فكان أول ما فعله هو الاتفاق مع أحد الصحفيين على أن يلاعب روكفلر الجولف ولم يمض وقت طويل حتى بدأت صورة الرجل تظهر في الصحف وهو يلعب الجولف بتواضع ومرح ويتردد على الكنائس ويمنح الهبات للمحتاجين ويداعب الأطفال.
ولم يكن ايفي لي بهذه الطريقة يتجاوز حقيقة روكفلر أو يضفي عليه ما ليس من خصاله وإنما ينقل الصورة الحقيقية إلى الجمهور بدلاً من الصورة الزائفة التي لم تكن تعبر عن واقع الرجل وسلوكه، وهذا ما التزم به ايفي لي طوال حياته، وهو نقل الصورة الحقيقة الصادقة لأي فرد أو منظمة إلى الجمهور، وشتان ما بين هذا المبدأ وبين ما يسعى إليه بعض الدخلاء على مهنة العلاقات العامة من محاولات لخلق صورة مشرقة لفرد معين أو منشأة ما، بغض النظر عن واقع ذلك الفرد أو تلك المنظمة، وهو ما يتنافى مع قيم العلاقات العامة وأخلاقياتها وقد أعلنها فولتير صريحة مدوية حين قال «إن الطريقة الوحيدة التي تجعل بها الناس يتحدثون عنك بصورة حسنة هي أن تتصرف بطريقة طيبة».
وهذا بالضبط ما لخصه المولى سبحانه و تعالى في سورة البقرة في الآيات التالية حين قال: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق