السبت، 4 أكتوبر 2014

العلاقات العامة.. هل هي علم أم فن؟

 

 تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :٥ أكتوبر ٢٠١٤

بقلم: د. زكريا خنجي

يختلف الباحثون والمشتغلون بالعلاقات العامة في تفسير مفهوم العلاقات العامة، فيما إذا كانت العلاقات العامة فنًا تكتيكيًا لا يرقى إلى مرتبة العلم، أم علمًا لا ينطبق عليه مضمون العلم، من حيث النظرية والمنهج، وللحكم على ذلك يجب أن نتفق أولاً على معنى الفن ومعنى العلم.
فالفن – كما هو معروف – مجموعة من الأعمال الإنسانية المنظمة، التي تتخذ وسيلة لغاية معينة، أو صناعة من الصناعات التي يزاولها الإنسان لغرض معين، فالفنان لا يعمل عملاً لذاته، يقصد به شيئًا آخر أو غرضًا معينًا. وتقسم الفنون إلى فنون نفعية مادية ورفيعة (أو جميلة)، والفنون النفعية كالملاحة والتجارة والعمارة، أما الفنون الجميلة فتشمل الموسيقى والغناء والتمثيل والرقص وما إلى ذلك.
والعلم يعرف على أنه مجموعة من الحقائق المنظمة المتحدة الموضوع، الثابتة الدليل العقلي أو التجريبي، وبمعنى آخر فهو تنظيم المعرفة لطبيعة الظواهر والعلاقات بينها.
إلا أنه يجب ألا نغفل من معرفة أن العلم والفن يتصلان بروابط وثيقة، فليس من المتصور أن يقوم علم بدون فن، أو يرقى فن بدون علم، ويتجلى ذلك في العلوم التطبيقية التي تظهر فائدتها في التطبيق الفني. بيد أن الفن يعتمد في الغالب على علم أو علوم مختلفة، فالتجارة تعتمد في رقيها على علم الاقتصاد والرياضيات، والملاحة تعتمد على الرياضيات وتخطيط البحار، وهكذا.
ويمكننا القول إن العلم ينطوي على الإدارة والمعرفة، والفن ينطوي على العمل. وأما فيما يتعلق بالعلاقات العامة فإن بعض التعريفات تشير إلى أن العلاقات العامة فن، والمقصود بالفن هنا – كما نعتقد – الفن المهاري، وليس بالمعنى الجمالي، والفن المهاري هو القدرة على التعامل مع الناس ومسايرتهم ومجاراتهم، أي أنها تحتاج إلى مهارة ولباقة وحسن تصرف وإلى تجديد وابتكار مستمر بحسب مقتضيات الظروف والمواقف، وهي الفن في كيفية التعامل مع الجمهور والحصول على رضاه ومحبته وكسب ثقته وتأييده، ويتحقق ذلك عن طريق الاتصال بالجماهير، ليس ذلك فحسب وإنما التعايش معهم لنقل الحقائق إليهم، وتفسير هذه الحقائق حتى تلقى هذه المؤسسات والهيئات تأييد الجماهير لها.
ويرى (D.Bloomfield) أن العلاقات العامة هي فن التأثير على الآخرين لسلوك الطريق نفسه الذي تتبعه تلك المؤسسات. كما عرف (هوارد بونهام Howard Bonham) عضو مجلس إدارة الصليب الأحمر الأمريكية العلاقات العامة بأنها فن التفاهم مع الجمهور، مما يؤدي إلى زيادة الثقة بالأفراد والمنظمات.
كما أن هناك من التعريفات ما اعتبر العلاقات العامة علمًا له قواعده وأصوله، فهي تُعنى بدراسة سلوك الأفراد والجماعات وقياس هذا السلوك وتحليل الرأي العام، بقصد تنظيم العلاقات الإنسانية على أسس من التعاون والمحبة والوعي، ويتضمن التخطيط العلمي لبرامج العلاقات العامة، ويهتم بالتوصيل الجيد للمعلومات بين الهيئة التي يعنيها الأمر وبين جمهورها، بهدف تحقيق المصلحة المتبادلة بينهما، والوصول إلى درجة عالية في المساندة الكلية والمشاركة الوجدانية.
وربما يؤخذ على اتجاه دراسة وتفسير السلوك الإنساني أنه بحر واسع ليس له حدود، فمن غير الصحيح القول إن العلاقات العامة تدرس كل النشاط الإنساني بكل ما فيه، وفي المقابل يرى أصحاب هذا الاتجاه أن المجتمعات القديمة لم تكن بحاجة إلى هذا العلم، لأن العلاقات العامة كانت عادية وبسيطة، ولكن بتقدم الحضارة وما صاحبها من تصنيع وزيادة عدد التخصصات وتقسيم العمل، بدأت المجتمعات تتعقد، وبالتالي العلاقات الاجتماعية بين الأفراد والجماعات تتعقد أيضًا، ونتيجة لهذا من الضروري أن يحدث توازن في المجتمع، قوامه التفاهم المتبادل والتساند الوظيفي بين الأعضاء. ومن هنا كان هدف العلاقات العامة متمثلاً في رعاية العلاقات الإنسانية السليمة بين أعضاء المؤسسة من جانب، وبين المؤسسة والجماهير من جانب آخر. إذ يهتم علم العلاقات العامة بالكشف عن الأسس والمبادئ التي تساعد على إقامة علاقات مفعمة بالثقة بين فئات الشعب المختلفة، بقصد نجاح المشروعات النفعية.
في مقال نشر بعنوان (علاقات العامة وإلا.. تطور المفهوم وتجدد الحاجة للعلاقات العامة في ضوء الأحداث التي يشهدها العالم العربي) للدكتور عبدالرحمن العناد يحاول من خلاله أن يلقي الضوء على مفهوم العلاقات العامة في العالم العربي مقارنة بمفهومه في العالم الغربي الذي يعد منشأة العلاقات العامة، فلنقتبس بعض أجزاء من تلك المقالة.
«ومنذ أن بدأت ممارسة العلاقات العامة في مطلع القرن الماضي، كانت من الناحية المثالية، ومن منطلق ما ينبغي أن تكون عليه، مفهومًا إنسانيًا يهتم بالجماهير التي تؤثر وتتأثر بالمؤسسات المختلفة في المجتمع، وتعمل على تحقيق مصالح المؤسسات، ومصالح الجماهير، والصالح العام في المجتمع بشكل عام».
ويقول «ويوضح استعراض تاريخ العلاقات العامة وأدبياتها، للمختصين وغيرهم، أن العلاقات العامة ومنذ أن نادى بالأخذ بها أبو العلاقات العامة (Ivy Lee) عانت من عدم الوضوح الدقيق في مفهومها أحيانًا، ومن سوء في ممارستها وتطبيقها في أحيان أخرى كثيرة».
«وعلى الرغم من الوضوح النسبي في المفهوم للمختصين، واجه العاملون على أرض الواقع صعوبة أكبر لتعريفها، وتحديد مفهومها، وبخاصة عندما يعملون أو يتعاملون مع غيرهم من غير المختصين، فأسيء فهم العلاقات العامة من قبل أفراد الجمهور العام، ومن قبل رجال الإدارة العليا، ومن قبل رجال الإعلام في المجتمع».
«وفي اعتقادنا أن رحلة غموض مصطلح «العلاقات العامة» قد بدأت منذ أن نقل المصطلح للغة العربية بترجمة غير دقيقة لا تعكس حقيقة العلم والمهنة فنقلها من نقلها للغتنا وكأنها ترجمة لمصطلح آخر مثل (General Relations) وإذا جاز لأحد أن يترجم كلمة (Public) – في أي موقع كانت – لكلمة (عام) باللغة العربية، فإنه لا يجوز أبدًا أن يحدث ذلك عندما نترجم مصطلح (العلاقات العامة)، لأن هذه الترجمة، بهذه الكلمات، لذلك المصطلح، ترجمة خاطئة. الغريب في الأمر أن الدلالات اللغوية للفظتي (Public) و(Relations) في كتب مبادئ العلاقات العامة باللغة الإنجليزية – قديمها وحديثها – واضحة ومفسرة تفسيرًا بدائيًا. فكلمة (Public) تعني (مجموعة من الناس لهم خصائص مشتركة) – أي جمهور، بينما تعني كلمة (Relations) روابط أو صلات أو علاقات.
ويواصل: «إن من المشكلات الأساسية في مفهوم العلاقات العامة في العالم العربي هي أن العلاقات العامة مفهوم ديمقراطي انتقل إلى مجتمعات غير ديمقراطية. فالمفهوم نشأ هناك نتيجة طبيعية للظروف البيئية المحيطة، بينما نقل إلى المجتمعات العربية وكأنه ترف، فتم التعامل معها كوظيفة ثانوية، أو وظيفة خدمات مساندة، فالمفهوم والممارسة خرجا عن سياقهما الصحيح، وعن فلسفتها الديمقراطية التي تحترم آراء الجماهير وتقدرها وتخشاها، فاستمرت النظرة الدونية للعلاقات العامة. إننا لا نبالغ عندما نقول إن أي منشأة قد لا تحتاج للعلاقات العامة مع الموظفين، مثلاً، ما لم تخش احتجاجهم او إضرابهم. كما أننا لن نهتم بالرأي العام ما دام الرأي العام سلبيًا، لا يستطيع أن يقوم بأي نشاط سياسي للتعبير عن سخطه حول قضية ما. وعلى الرغم من ذلك، تمر في الأدبيات العربية مسألة الرأي العام وقوته، وكأنها أمر آخر، له علاقة، وليس مدعاة، لوجود العلاقات العامة.
ولما كانت العلاقات العامة قد نشأت في بيئة مختلفة عن البيئة العربية من النواحي السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، فقد كانت هناك اشكالية مهمة في نقل العلاقات العامة مفهومًا وممارسة لبيئات مختلفة، وكان هناك دائمًا تساؤل حول مدى ملائمة العلاقات العامة كما قننت في المجتمعات الغربية للبيئة العربية. وانطلقت هذه الإشكالية وهذا التساؤل المهم من أساسيات بروز الحاجة للعلاقات العامة في مجتمعات ديمقراطية لها خصائص اقتصادية مختلفة، وعاشت ظروفًا أكسبت الرأي العام والتنظيمات العمالية قوة غير عادية، وهي أساسيات قد لا تتوفر في كل المجتمعات العربية.
ومن الواضح أن العلاقات العامة التي قامت على أسس ديمقراطية بحتة، وتنطلق من الاهتمام الكامل بالرأي العام ورأي الجماهير الخاصة، وتؤمن بقوة رأي الجمهور، وتخشى تأثيره في أوضاع المؤسسات التي تخدمها، لا يمكن أن تعمل بنفس الطريقة في مجتمعات غير ديمقراطية، لا تهتم بالرأي العام، ولا بآراء الجماهير، بل إن الحاجة إلى العلاقات العامة في مجتمعات تنظر للجمهور جمهورًا سلبيًا قد لا تظهر أصلاً، ولهذا تساءلنا في السابق عن امكانية تطبيق العلاقات العامة في مجتمعات ليست ديمقراطية؟
وقد اتضح لنا أن الاختلافات في سمات البيئتين الغربية والعربية كانت سببًا مباشرًا في سوء توظيف العلاقات العامة في العالم العربي، وفي عدم حماس المؤسسة السياسية والمؤسسة الإدارية، وبالتالي الإدارات العليا في المنشآت المختلفة للأخذ بها وتوظيفها بالشكل السليم».
«وأحسب أن سلبية الرأي العام وخمول الجماهير، عاملة كانت أو مساهمة، أو مستفيدة من خدمات المنشآت، وغياب التنظيمات والنقابات العمالية القوية حتى وقت قريب في الوطن العربي، كانت سببًا مهمًا في عدم ظهور حاجة حقيقية لممارسة العلاقات العامة الصحيحة، صحيح أن ممارسة العلاقات العامة حاولت كسب تأييد وتعاون وتعاطف الجمهور واعتبرت ذلك وظيفة أساسية لها، وصحيح أن المؤسسات التجارية والصناعية والحكومية وظفت العلاقات العامة بهدف كسب الجمهور وكسب تفاهمه، لكنني أقول إن تلك المهمة كانت لا تتجاوز التنظير، ولم تكن الممارسة الفعلية للعلاقات العامة تصب فعلاً في ذلك الاتجاه، وسبب ذلك كما أظن واحاول شرحه في هذه الورقة هو أن الرأي العام لم يكن قويًا، وأن آراء الجماهير لم تكن قوية، وأن الثقافة العربية التقليدية السلطوية لا تحسب – إن حسبت – حسابًا واحدًا وليس ألف حساب لرأي الجمهور وما يريده وما يتطلع اليه. والمعنى هو أن المؤسسات السياسية والاقتصادية تحديدًا لم تكن تخشى من الجماهير، لأن الجماهير كانت إلى حد كبير قنوعة، وأقصى ما يظهر منها التذمر – بالسر أحيانًا – أو الشكوى بالطرق التقليدية.
وإذا ما قارنا ممارسة العلاقات العامة في العالم العربي بشكل عام في مثل هذا الجو السلبي للجماهير، عن ممارستها في البلدان الغربية نلاحظ أن هناك غياب شبه تام للاتصال بالاتجاهين، فالتركيز في العالم العربي يكون على الاتصال المتجه من المؤسسة للجمهور، ولهذا كان البحث العلمي واستطلاعات الرأي نادرة الاستخدام. وكما تعلمون فإن هذا الأمر مرتبط بالبعد الثقافي واحترام الرأي الآخر، واحترام الرأي العام، ومدى الخشية من نتائج عدم الرضا والآراء السلبية، فتعاملت القوى العليا في المجتمعات العربية مع الجماهير بفوقية، ورأت أن الشعوب لا تزال غير قادرة حتى على تحديد مصلحتها، ولهذا النوع من الممارسة أبعاده السياسية حيث يغيب الفكر الديمقراطي في غالبية الدول العربية، الأمر الذي أثر بشكل واضح في مفهوم العلاقات العامة وفي طبيعة ممارستها».
«إن علينا كأساتذة وممارسين أن نقرع الجرس، وأن نحذر المؤسسات التي نعمل لصالحها، أن عليها أن تغير النظرة للعلاقات العامة، وعلينا أن نوجه عمل العلاقات العامة لتكون جهاز استشعار للكشف عن المشكلات قبل أن تقع، علينا أن نهتم أكثر بآراء الجمهور موظفين كانوا أو عمال أو مستهلكين أو مراجعين أو غيرهم، وكلما تمكنا من معرفة التوجهات بدقة وتعاملنا معها بالشكل الصحيح وفي الوقت المناسب ساعدنا المنشآت من خطر تحول الآراء إلى أفعال احتجاجية كالعصيان والاضراب والمقاطعة والشغب وغير ذلك من السلوكيات التي لا تتمنى أي مؤسسة اينما كانت مواجهتها.
وعلينا أن ندرك وأن نؤكد لمن يثقون بنا أن سمات البيئة الجماهيرية المؤثرة في عمل العلاقات العامة، اختلفت اليوم في العالم العربي كثيرًا عن السابق، الشعب يريد - والموظفون يريدون - والمستهلكون يريدون، وكلمة «يريد» و«يريدون» التي لم تكن تعني شيئًا كثيرًا حتى وقت قريب، أصبحت اليوم كلمة مخيفة، فالجمهور أصبح أكثر جسارة وأكثر قدرة على التعبير والمطالبة، هذه البيئة الجماهيرية بسماتها الجديدة تستدعي تطوير أداء العلاقات العامة لتكون جهاز استشعار يستبق فورة أو ثورة أو احتجاج أو إضراب أو اعتصام، ويستدعي كذلك التعامل مع الجماهير عندما تبدأ في التعبير عن رأيها ورغباتها وطموحاتها بحنكة وبإيجابية، وليس بفوقية وفرض وإملاء، هذه هي الرسالة التي ينبغي أن ننقلها لأصحاب القرار في كل المؤسسات التي نعمل بها، علينا أيضًا أن نعي السمات الجماهيرية التي حددها (نولت) وترجمتها قبل نحو عقدين من الزمان، ونشرتها في كتابي». أ. هـ.
وتظل العلاقات العامة قضية مفتوحة للنقاش.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق