السبت، 25 أكتوبر 2014

التغافل .. لغة نحتاج إلى فهمها

 

 تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :٢٦ أكتوبر ٢٠١٤

بقلم: د. زكريا خنجي

يروى أنه دخل رجل على الأمير المجاهد قتيبة بن مسلم الباهلي، فكلمه في حاجة له، وأثناء ذلك وضع الرجل نصل سيفه على الأرض فجاء على أصبع رجل الأمير، وجعل يكلمه في حاجته وقد أدمى النصلُ أصبع الأمير، والرجل لا يشعر، والأمير لا يظهر ما أصابه، وجلساء الأمير لا يتكلمون هيبة له، فلما فرغ الرجل من حاجته وانصرف دعا قتيبة بن مسلم بمنديل فمسح الدم من أُصبعه وغسله، فقيل له: ألا نحَّيت رجلك أصلحك الله، أو أمرت الرجل برفع سيفه عنها، فقال: خشيت أن أقطع عنه حاجته.
يقول راوي الحكاية: فلقد كان في قدرة الأمير أن يأمره بإبعاد نصل سيفه عن قدمه، وليس هنالك من ملامة عليه، أو على الأقل أن يبعد الأمير قدمه عن نصل سيفه، ولكنه أدب التغافل حتى لا يقطع على الرجل حديثه، وبمثل هذه الأخلاق ساد أولئك الرجال.
ونعني بالتغافل تعمّد الغفلة، أي أن يراه الآخر أنه غافل، إلا أنه في الحقيقة يعلم تمام العلم بما يحيط به ومدرك لما يتغافل عنه؛ وذلك تكرمًا وترفعًا عن سفاسف الأمور. فالمتغافل يتعمد الغفلة عن أخطاء وعيوب من حوله، مع أنه مدركٌ لها، عالمٌ بها؛ لكنه يتغافل عنها كأنه لم يعلم بها؛ لكرم خلقه.
وقد ذكر ابن الأثير متحدثًا عن صلاح الدين الأيوبي أنه «كان صبورًا على ما يكره، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه، يسمع من أحدهم ما يكره، ولا يعلمه بذلك، ولا يتغير عليه. وبلغني أنه كان جالسًا وعنده جماعة، فرمى بعض المماليك بعضًا بسرموز– يعني بنعل – فأخطأته، ووصلت إلى صلاح الدين فأخطأته، ووقعت بالقرب منه، فالتفت إلى الجهة الأخرى يكلم جليسه؛ ليتغافل عنها».
والتغافل – كما قال حسن البصري – من فعل الكرام، وهو «تسعة أعشار حسن الخلق» كما قال الإمام أحمد بن حنبل، وذلك بسبب أن الإنسان الذي يتمتع بأدب التغافل يترفع عن سفاسف الأمور.
فالمدير – مثلاً – يجب أن يتجاوز عن موظفيه إن هم قصروا بشيء ما، فلا يستقصي مكامن تقصيرهم فيبرزها لهم ليلومهم ويحاججهم عليها، ولا يذكرهم بحقوقه الواجبة عليهم تجاهه عند كل زلّة، وإنما يتغافل عن اليسير وهو يعلمه، ليس ذلك فحسب وإنما إن أمكن يحاول أن يرشدهم إلى فعل الصواب.
وكيف يكون حال الأب أو الأم الذي يعاقب الابن أو البنت على كل خطأ ثم يفكر في تعليمه بعد ذلك؟ كيف سينشأ هذا الطفل وهل يتقبل النصح بعد العتاب والتجريح وربما الضرب؟ حتمًا سينشأ محملاً بالجروح والاهانات وتنعدم سبل التواصل بينه وبين والديه. هذا هو الحال مع أب وابنه أو أم وابنتها، فكيف سيكون الحال بين زوج وزوجته؟
في مجتمعنا العربي الزوج يختار زوجته وهو يحلم أن تكون مثالية جدا، وينتظر أن تفعل له ما يريد، وأن تقوم بما يحب، وكأنها تعلم بما في نفسه أو خلقها الله شاذة عن الخلق الذين جبلوا على الخطأ، وعندما يعيشان معًا تبدأ المشاكل، والسبب كثرة الانتقاد والمحاسبة وقلة التشجيع والاهتمام، وما ينطبق على الزوج ينطبق على الزوجة كذلك.
وتروي كتب التربية هذه الحكاية على لسان أحد الأبناء، فيقول:
بعد يوم طويل وصعب من العمل وضعت أمي طعام العشاء أمام أبي على الطاولة، وبجانبه خبز محمص لكن الخبز كان محروقًا تمامًا.
أتذكر أنني ارتقبت طويلاً كي يلحظ أبي ذلك، ولا أشك على الإطلاق أنه لاحظه إلا أنه مدّ يده إلى قطعة الخبز، وابتسم لوالدتي، وسألني كيف كان يومي في المدرسة؟ لا أتذكرُ بم أجبته لكنني أتذكر أني رأيتهُ يدهنُ قطعة الخبز بالزبدة والمربى ويأكلها كلها.
عندما نهضتُ عن طاولة الطعام تلك الليلة، أتذكر أني سمعتُ أمي تعتذر لأبي عن حرقها للخبز وهي تحمصهُ، ولن أنسى رد أبي على اعتذار أمي حينما قال: لا تكترثي يا حبيبتي بذلك، أنا أحب أحيانًا أن آكل الخبز محمصًا زيادة عن اللزوم وأن يكون به طعم الاحتراق.
وفي وقت لاحق تلك الليلة عندما ذهبتُ لأقبل والدي قبلة تصبح على خير، سألته إن كان حقًا يحب أن يتناول الخبز أحيانًا محمصًا إلى درجة الاحتراق فضمني إلى صدره، وقال لي:
يا بني، أمك اليوم كان لديها عمل شاق وقد أصابها من التعب والإرهاق في يومها الشيء الكثير، فهل نرهقها ونعاتبها بسبب قطعة خبز محترقة بعض الشيء؟ إن قطعًا من الخبز المحمص زيادة عن اللزوم أو حتى محترقة لن تضرّ حتى الموت.
إن الحياة يا بني مليئة بالأشياء الناقصة، وليس هناك شخص كامل لا عيب فيه، علينا أن نتعلم كيف نقبل النقصان في الأمور، وأن نتقبل عيوب الآخرين، وهذا من أهم الأمور في بناء العلاقات وجعلها قوية مستديمة. خبز محمص محروق قليلاً لا يجب أن يكسر قلبًا جميلاً فليعذر أحدنا الآخر، ولا نظن بالآخرين إلا خيرًا فنحن لا نعرف ظروف الآخرين. أ. هـ
فالبشر جبلوا على الخطأ، والخطأ من الجهتين، المتحدث والمستمع، فمن غير الحكمة أن ننتظر من الناس أن يفعلوا ما نريد أو أن يقولوا ما نريد، بل يجب أن نتعامل مع الناس معاملة واقعية مرنة تأخذ في حسبانها الطبيعة البشرية التي جبلت عليها، كما أننا في الكثير من الأحيان قد لا نفهم الكلمة التي تخرج من فم الإنسان المتحدث أو ربما نعيد صياغتها في أذهاننا وذلك لحاجة في نفوسنا.
قال الفاروق أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «لا تظنَّ بكلمة خرجت من أخيك كالمؤمن إلا خيرًا، وأنت تجد لها في الخير محملاً». وقال جعفر بن محمد: «إذا بلغك عن أخيك الشيء تنكره فالتمس له عذرًا واحدًا إلى سبعين عذرًا، فإن أصبته وإلا، قل لعل له عذرًا لا أعرفه».
وقال الإمام ابن القيم: «من أساء إليك ثم جاء يعتذر من إساءته، فإن التواضع يوجب عليك قبول معذرته، حقًا كانت أو باطلاً، وتوكل سريرته إلى الله»، ويواصل ويقول: «وعلامة الكرم والتواضع أنك إذا رأيت الخلل في عذره لا توقفْه عليه ولا تحاجّه، وقل: يمكن أن يكون الأمر كما تقول، ولو قضي شيء لكان، والمقدور لا مدفع له ونحو ذلك».
وعلى الرغم من ذلك، فإننا يجب أن ندرك ثلاثة أمور تتعلق بالتغافل، حتى لا نسيء فهم هذا الأدب الرفيع وكذلك حتى لا نسيء إلى أنفسنا، وهي:
1- هناك التغافل عن السلبيات، وهذه سمة إيجابية مقبولة ومرغوبة.
2- وهناك تغافل عن الإيجابيات، وهذه سمة سلبية غير مقبولة وغير مرغوبة.
3- وفي مواقف أخرى يكون من الحماقة أن نتغافل عن الخطأ، فليس من الحكمة الاستمرار بالتغافل الكامل عن الخطأ المستمر أو المتعمد، ففي هذه الحالة فإننا نحتاج إلى تدخل سريع للتنبيه إلى سلوك معين، وذلك من أجل وقف الضرر القائم وربما إحقاق الحق.

الخلاصة: أن نتغافل عن الأخطاء البسيطة من البشر وخاصة من الناس الذين يعيشون حولنا ونتعايش معهم ونحبهم، ولكن حتى هؤلاء إن تمادوا في الخطأ فإنه من الواجب أن نوجههم ونرشدهم إلى الخطأ ولكن بعيدًا عن التأنيب والإذلال.
أما الأشخاص الذين يتعمدون الخطأ في حقنا ويستمرون في الخطأ مع علمهم أن ذلك خطأ فإن ذلك يحتاج منا إلى وقفة، توقفهم عند حدّهم، فليس من الحكمة أن نتغافل عن تاجر يحاول أن يغشنا في البيع أو سارق أو محتال ونحن ندرك أنه يقوم بذلك.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق