السبت، 17 يناير 2015

أيقظ التميز الذي بين جنبيك

 

تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج:١٨ يناير ٢٠١٥

بقلم: د. زكريا خنجي

أنا من الذين يؤمنون بأن كل إنسان يتمتع بقوة ذكاء في جانب معين، فإن استطاع هذا الإنسان خلال فترة حياته أن يتعرف على هذا الجانب وأن يطوّره ويستغله فإنه حتمًا سيتميز على أقرانه حتى وإن لم يكن أذكى الموجودين، وهذا هو التميز.
قال لي أحدهم ذات يوم: ليس مهمًا أن تكون قد تخرجت في الجامعة بدرجة ممتاز لتكون ذكيًا، وليس من المهم أن تكون ذكيًا في كل جوانب الحياة حتى تكون مميزًا، وإنما يجب أن تتميز في جانب أنت قادر على استملاك كل أدواته، ليس ذلك فحسب وإنما استغلال كل تلك الأدوات والاستفادة منها بأقصى قدر ممكن حتى تتميز وتصبح نجمًا في السماء، انظر إلى الفنان عبدالحليم حافظ يقال انه لم يكن أجمل الأصوات ولكن انظر إليه عندما يعتلي المسرح ويبدأ في الغناء، هذا الفنان استطاع أن يستفيد من قدرات صوته وأبعاده فاستطاع أن يستخدم كل تلك المساحات الصوتية التي أتيحت له وكل تلك الإمكانيات فأصبح نجمًا. أ. هـ.
وفي اللغة العربية فإن التميز يعني التفرد، والاتصاف بأوصاف تشتهر بها ولا يشتهر بها غيرك، وفي المعجم الوسيط: (امتاز الشيء) تعني بدا فضله على مثله، وكذلك (التميز يعني الرفعة)، وفي القاموس المحيط: (استماز الشيء) تعني فضل بعضه على بعض.
وعرف مكتب التربية الأمريكي عام 1972 م الأفراد المتميزين بأنهم الأفراد المؤهلون بدرجة عالية، والذين يتميزون بدرجات عالية من الأداء، وفي تعريف آخر، عرف الفرد المتميز بأنه صاحب الأداء العالي مقارنة مع المجموعة العمرية التي ينتمي إليها في قدرة أو أكثر.
كما عرف العالم التربوي رنزولي التميز بأنه تمتع الفرد بقدرات فوق المعدل العادي، والتمتع بالقدرات الإبداعية، وقدرات العمل والإنجاز.
ومصطلح التميز مصطلح براق شديد التوهج، يعكس أوجه الفرادة للوهلة والاختلاف مع التمكن الذي يمكن به الظهور على الآخرين والتفوق عليهم، وهو مظهر من مظاهر التفوق لدى الشخصية القيادية الناجحة، أو هو حالة من التفرد النوعي الذي يكتسبه المرء بسبب كفاءات خاصة تفاضله عن باقي أقرانه في مجال ما، وهو دليل على وجود الرغبة في الإبداع والتغيير عند الشخص المميز، إذ لا يمكن الحديث عن التميز عند الشخصية الاتكالية أو الانهزامية أو الخاملة.
و يعتبر الدكتور الفقي التميز عملية إنتاجية ذاتية بمقدور كل فرد أن يقوم بها بشرط أن يدرك قيمة ما أودعه الله فيه من قدرات ومواهب تؤهله للتميز، فيقول في هذا الصدد «التميز منتج أنت المسئول عن صناعته، فهو كامن بداخلك فما عليك إلا أن تبحث عنه وتصبح جاهزًا لصناعته بنجاح متواصل على المستوى النفسي والعملي، فمثلاً الهواء إذا لم تكن رئتاك سليمتين وجاهزتين لاستنشاقه وتنقيته فلن تستطيع التنفس،... وعليك أن تؤمن بهذا المنتج وقدرتك على وصول عقلك إليه، فمخك له 4 وظائف أساسية تساعدك على الإنتاج هي: الاستدلال أو التعلم والإدراك، اكتساب المهارات، الابتكار».
ونحن نعتقد أن الشخصية المميزة الناجحة هي تلك التي تسير في اتجاه معين ولكن ليس أي اتجاه بل الاتجاه المؤدي إلى الطريق الصحيح، وتتبع منهجًا خاصًا يقودها إلى النجاح، وصاحبها هو الذي يبدأ مشوار حياته في تحديد هدفه وطريقه ويضع خطة ومنهجًا يسير عليهما، ويستغل وقته ويومه بالشكل الصحيح.
وقد حثنا المصطفى صلى الله عليه وسلم على البحث في ذواتنا والغوص في أعماق مكنوناتنا لنستكشف ونضع أيدينا على نقاط قوتنا وذكائنا عندما قال «اعملوا فكل ميسر لما خلق له»، وبالتالي يمكننا أن نطور من أنفسنا، فليس المطلوب من الإنسان أن يعمل ويجد في كل الاتجاهات ولكن المطلوب منه أن يعمل ويجدّ في الجزء الذي هو ميسر له.
فعلى الإنسان السعي الدائم للتميز في كل أمر من أمور حياته، وذلك من خلال إتقان العمل، وبذل الجهد من دون رقيب، مع إخلاص النية لله تعالى، والتوكل عليه في كل هذه الأمور، فبذلك يكون قد وضع قدمه على أولى درجات التميز، فمع وجود الرغبة، وبغضّ النظر عن العمر وعن الظروف المحيطة، ثم البدء في تطوير أدائه وتفكيره، ومسايرة كل ما هو جديد من أبحاث وتجارب وخبرات وإبداعات تتناسب مع عقيدتنا، وحسن تخطيط مع تحمل الصعاب والأزمات في سبيل ذلك، والإيمان بأهمية دوره في الحياة، مع التحلي بثقة كبيرة بالنفس، فبهذا كله يستطيع أن يحقق درجات عالية من الأداء، ليصبح فردًا متميزًا.
وقد فهم الصحابيات رضوان الله عليهن هذا المضمون من التميز عندما طلبن من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخصص لهن يومًا. فعن أبي سعيد الخدري؛ قالت النساء للنبي: غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يومًا من نفسك، فوعدهن يومًا لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن.. إلى آخر الحديث.
فالصحابيات شعرن بالرغبة في التميز أيضًا كما كان الرجال، وكان سؤالهن: لماذا يتميز الرجال عنا؟ أليس من حقنا أن نتعلم وأن نتميز؟
ويرى الباحثون أن من أبرز دوافع التميز:
1- الدافعية الشخصية للأفراد الذين يمتلكون حماسًا خاصًا نحو العمل.
2- الرغبة في التحدي والاندفاع نحو تحقيق الأهداف مع إيجابية تامة في التعامل مع الآخرين.
3- المرونة في التفكير وزيادة النشاط.
4- ارتفاع في القدرات العقلية والأدائية.
5- وجود حساسية تجاه المشكلات المحيطة مع رغبة جادة في إيجاد الحلول المناسبة.
6- احترام الذات والرغبة في تحقيق الاستقلال في جوانب عدة منها: التفكير وإصدار الحكم والتفرد والنظرة المختلفة للأشياء والقيادة.
7- الثورة الداخلية على الروتين والتقليد والرغبة في التعامل مع ما هو غير واضح ومعقد ومبهم.
8- تحقيق اتساع واضح وامتداد مستمر داخل الجماعة من خلال التفاعل المباشر مع قضايا المجتمع ومشكلاته.
9- الرغبة المستمرة في تحقيق النجاح وحب الاستطلاع والقدرة على تقديم مساهمات مبتكرة وجادة وأصيلة.
ترى كم نملك نحن وكم يملك أولادنا من هذه الدوافع؟ فإن كنا نملك ذلك فكم حاولنا أن نتطور فعلاً؟ وإن وجدنا في أولادنا هذه الرغبة في التميز فكم حاولنا تشجيعهم والأخذ بيدهم إلى طريق التميز؟ كم فردا منا يفعل ذلك؟ كم معلم أو معلمة استطاعا أن يثير حماس الطلبة للتميز من خلال المناهج الدراسية والأنشطة الصفية واللا صفية؟
هذه الصفة هي ما نبحث عنه عندما ندخل محل لشراء بعض الاحتياجات، فلماذا نصرّ على شراء نوع معين من التلفونات النقالة؟ لماذا هذه العلامة من العطر وهذا النوع من المكياج؟ لماذا نذهب إلى الشركة الفلانية عندما نريد تأمين السيارة؟ لماذا نذهب الى المصنع الفلاني عندما نرغب في صناعة بعض المنتجات الخشبية؟ كل ذلك بسبب أن هذه الجهات استطاعت أن تتميز في المنتج النهائي، استطاعت أن تجذب الزبون حتى وإن كانت توجد البدائل العديدة.
ولكن يجب أن نفهم أن التميز هاجس، يعيش داخل النفس البشرية، قلق دائم، اندفاع ذاتي وشخصي، يجعلك في الكثير من الأوقات تتقلب ولا تتمكن من الجلوس حتى تصل إلى مبتغاك، وعندما تصل إلى هذا المبتغى وتنجزه فإنك ببساطة تندفع إلى آخر، والسبب أنك تبحث عن الارتواء، ولكن في الحقيقة لن ترتوي إلا أنك دائمًا تعيش في حالة رضا مع نفسك، لأنك عادة تشعر أنك تميزت على أقرانك، وهذا ليس غرورًا بقدر ما هو معرفة قدراتنا وأنفسنا.
التميز والرضا به لا يعد جزءا من الغرور أو ما يشابه، وكذلك التميز لا يعني أن نجعل الناس تطأطئ رؤوسها لنا حتى نصعد على اكتافها، إنما التميز حالة من الإبداع والتجلي في النفس والذات، فإن تمكنا منها فإننا تمكنا من التميز وإن لم نتمكن فإننا نبقى أناسا مثلنا مثل غيرنا، جئنا إلى الدنيا ونغادرها من غير أن نترك بصمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق