السبت، 24 يناير 2015

كيف أتميز على غيري؟

 

 تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :٢٥ يناير ٢٠١٥

بقلم: د. زكريا خنجي

بعد أن نشرنا المقال السابق (أيقظ التميز بين جنبيك) في الأسبوع الماضي، وصلتني ثلاثة رسائل عبر البريد الإلكتروني، كلها تركز على موضوع واحد وهو باختصار: أنا أريد بالفعل أن أتميز ولكن كيف؟ لا أعرف السبيل ولا أعرف الطريق؟ حتى إن أحدهم أضاف بقوله «لا تقول لي اقرأ الكتب الموجودة في الأسواق، فقد قرأت جلها ومع ذلك لم أحقق تقدمًا».
في الحقيقة، أنا أعتقد أنه لا يوجد سبيل واحد ولا طريقة واحدة لبلوغ التميز، كما يجب أن نلاحظ إننا لا نتكلم هنا عن النجاح وإنما نتكلم عن التميز في النجاح، نتكلم عن التفرد وسط مجموعة كبيرة من العاملين في نفس المجال، نتكلم عن النجومية بين العديد من النجوم اللامعة ولكنها أقل لمعانا منك، فكيف تصبح لامعًا في البداية ومن ثم كيف تصبح أكثر لمعانا منهم؟

إذن، ببساطة كيف نتميز وسط النجوم؟
1- معرفة نقطة التميز: أول أمر يجب أن تعرفه هو ما النقطة التي تتميز بها؟ فهل أنت حرفي، نجار أو ميكانيكي أو ما إلى ذلك؟ أم أنت كاتب؟ أم أنت مفكر؟ يجب أن تتوصل إلى قرار، ونعتقد أن هذا الأمر يحتاج إلى تفكير ومراقبة النفس وفي النهاية إلى اتخاذ قرار. وقد يكون هذا الأمر صعبا على العديد من الناس، لذلك فإننا نجد أن المتميزين قليلون، وعليه فإننا يجب أن نبدأ بهذه النقطة، وقد تمر سنوات ونحن عاجزون عن بلوغها، ولكن في النهاية يجب أن نصلها إن قررنا أن نتميز في مجال وجودنا. ويجب أن نعرف أنه ما من كائن في هذا الكون إلا ولوجوده معنى فأبحث عن معنى لوجودك مهما تأخر اكتشاف ذلك، فإن جاء متأخرًا خير من أن لا يأتي.
2- الذكاء: ونحن هنا لا نحتاج إلى عبقرية وذكاء خارق، ولكن نحتاج إلى نوع من الذكاء في مجال التميز، فمن غير المعقول أن تقول للبشر أنك متميز في الديكور الداخلي للمنازل وأنت لا تعرف أن ترتب بعض المخدات! أو أن تقول أنك متميز في حرفة النجارة وأنت لا تعرف كيف تستخدم المسطرة للقياس! أنت محتاج إلى ذكاء يتفوق على الناس العاديين يساعدك على الاجتهاد والاتقاد الروحي، وذكاء فطري يساهم في شق دروب التميز. ويذكر الإمام السيوطي في ترجمة الخليفة الراشد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه من كتابه (تاريخ الخلفاء): «وهو مع ذلك من أذكى عباد الله وأعقلهم». كما يروي ابن الجوزي في (المنتظم) خبرًا عن التوزي يقول فيه: «اجتمعنا بمكة، أدباء من كل أفق، فتذاكرنا أمر العلماء، فجعل أهل كل بلد يرفعون علماءهم ويصفونهم، حتى جرى ذكر الخليل فلم يبق أحد منهم إلا قال: الخليل أذكى العرب، وهو مفتاح العلوم ومصرفها»، يعني به الخليل بن أحمد الفراهيدي، صاحب العروض.
3- القراءة والعلم: اسأل نفسك هذا السؤال: كيف يمكنك أن تتقدم في المجال الذي ترغب في أن تتميز فيه وأنت لا تقرأ فيه أو حتى لا تحاول أن تتعلم من علومه الأمور الجديدة كل يوم؟ والاطلاع على ثقافة وعلوم الآخرين، حتى لو كانوا منافسين من الأمور التي تعمل على توسيعِ المدارك، ورفع نسب الإبداع، أما التشرنق على الذات، وسجن العقل في محابس المكان والثقافة المتعود عليها، فلا يؤديان إلا إلى «العادية»، وفي هذا المعنى يقول أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه: «من أراد أن يكثر علمه، فليجالس غير عشيرته». قال الشاعر الألماني (راينر ماريا ريلكه): «إذا أردت أن تكتب سطرًا شعريًا واحدًا، يجب أن تكون قد زرت مدنًا كثيرة، ورأيت أشياء كثيرة، وقطفت زهورًا كثيرة». وابن بطوطة لم يلقب بأمير الرحالين لأنه جلس في منزله وتخيل المدن والدول ولكنه غادر مسقط رأسه طنجة وانتقل بالفعل إلى كل تلك الدول، فهل نذكر ابن بطوطة ؟
4- دراسة حقل الاختصاص والتميز: ونؤكد مرة أخرى وفي هذه النقطة لزيادة التعمق في المجال الذي نرغب التميز فيه، نعرف كل صغيرة وكبيرة فيه، حاضره وماضيه، من هم علماؤه ومن هم الذي حاولوا أن يسبروا غوره ولكنهم لم يتمكنوا من ذلك ولماذا؟ ما الأدوات التي يحتاجها من يرغب الإبحار في هذا المجال؟ هل تحتاج إلى دراسة جامعية وشهادة تخصص؟
5- تحديد الهدف ووضع خطة: من غير المعقول أن تسير في خط وطريق وأنت لا تعرف إلى أين يؤدي هذا الطريق كيف تسير فيه وكيف يمكنك اجتياز مشاكله؟ فلا تتوقع أبدًا أن الأمر بسيط وأن الطريق وردي ومنثور بالورود، فضع خطة واضحة وربما خططا بديلة فإن فشلت في تحديد هذه الخطة فيمكن أن تسلك الخطة البديلة؟ فهل وضعت خطتك للوصول إلى التميز في هذا الطريق؟ فليس من المعقول أن تركز على الهدف ولا تعرف كيف يمكن الوصول إلى تحديد الهدف.
6- الجودة في اختيار الأدوات والآلات وكذلك الجودة في استخدامها: يجب أن نعرف أن الأدوات ونوعيتها تلعب دورًا رئيسًا في عملية الإبداع والتميز، فالرسام الذي يدهشنا بلوحاتِه الفنية البديعة، لم يدهشنا إلا بعد أن جند لفنه ضروبًا شتى من أدوات الرسم المختلفة في أنواعها وأحجامها وأغراضها، وبمواصفاتٍ نخبوية فاخرة من الطراز الأول جودة ونوعية. والأمر نفسه ينطبق على أدوات المصور، والمخرج، والطبيب، وخبيرة التجميل، والطاهية ونحوهم من المبدعين.
7- ترك التقليد: فبين التقليد والإبداع منافرة شديدة، ولا يمكن أن يتميز من يعتمد على تقليد الآخرين ومحاكاتهم في نجاحاته، مهما نجح في النسخ واللصق والاستنساخ إلا أنه في لحظة ما يقف ويفشل. نعم، يمكننا أن نستفيد من الآخرين ونتعلم من نجاحاتهم ولكن إلى درجة معينة فلا نقلدهم التقليد الأعمى؛ وإنما نستفيد منهم ونطور ونفكر ونبدع، حتى نصل إلى درجات من التميز لم يصل إليها الأسبقون.
8- الروح المتطلعة للتميز: فلا يمكن لإنسان يرغب في التميز أن لا يمتلك تلك الروح الشغوفة بتلك المهارة التي تغلي في نفسه وترغب في البروز، يجب أن تكون روحه كلها متشربة من هذا التميز، كل خلية من خلايا جسمه تصرخ من ضغط التميز عليها، تأخذ كل مساحة من مساحات فكره، فلا يعجز ولا يفتر ولا يبرد، بل نجده دائمًا في حال من التوهج والركض والحماس.
9- الثقة بالنفس: يعد الشخص المميز شخصا واثقا من نفسه، مؤمنا بأحلامه، لا يستكين ولا يتهاون، ومتى أراد بلوغَ القمة بلغها، والمثبطون من خلفه لا ينفكون يحذرونه مما ينتظره في القمة. قال العالم النفسي (وليام جيمس): «إن الفكرةَ الجديدة تتهم بالسخف في البداية، ثم بالتفاهة بعد ذلك، وفي النهاية تصبح شيئًا معروفًا لكل الناس».
10- الترحيب بالنقد البناء، وعدم الالتفات إلى النقد الهدام: إن الثقة بالنفس لا تعني أبدًا أن لا نسمع إلى الانتقادات البناءة التي تحاول أن تعلمنا أخطاءنا وترشدنا إلى نقاط الضعف فينا، وخاصة لما تأتي من معلمينا الذين يحاولون أن يقننوا خطواتنا ويقلصوا في الزمن حتى نصل إلى مبتغانا، فنحن نتعلم من أخطائنا أكثر مما نتعلم من نجاحاتنا، ولكن علينا أن نحذر من المتشككين والمثبطين في قدراتنا ومن هممننا. فربما نخطئ في الوصول إلى مبتغانا من الخطوات الأولى، وربما نمضي جزءا من عمرنا ونحن نعاني الأمرين ولم نبلغ ما نريد، ولكن كل هذا يجب أن يكون دافعا لنا حتى نصل، فكل خطأ نرتكبه يجب أن يزيد من عزمنا على بلوغ النجاح. وعندما سأل أحد الصحفيين توماس أديسون عن شعوره حيال 25 ألف محاولة فاشلة قبل النجاح في اختراع بطارية تخزين بسيطة، أجاب: «لست أفهم لم تسميها محاولات فاشلة؟ أنا أعرف الآن 25 ألف طريقة لا يمكنك بها صنع بطارية، ماذا تعرف أنت؟» وعن اختراع المصباح الكهربائي الذي حققه بعد ألفي مرة من التجريب الفاشل يقول: «أنا لم أفشل أبدًا، فقد اخترعت المصباح في النهاية. لقد كانت عملية من ألفي خطوة، ولا بد من اجتيازها للوصول إلى ذلك».
11- اغتنام فرص الإلهام: لم يكتشف أرشميدس قانون الطفو بصورة اعتباطية، ولم يكتب أمير الشعراء قصائده وهو نائم، ولم يكتشف الرازي كتابه الحاوي من غير أن يعاني وأن يجرب لذلك وفي الحقيقة فإن الإنسان يحتاج إلى لحظة من الإلهام، فإن جاءت فيجب أن يستغلها وألا يتركها تتطاير من بين يديه مع نسمات الهواء، فارشميدس عندما وجد نفسه يطفو في حوض السباحة صرخ «وجدتها» ثم راح يكتب لحظة إلهامه، وكذلك نيوتن عندما وجد التفاحة تسقط من الشجرة. قال الشاعر الفرنسي (بول فاليري): «إن الإلهام يأتي الشاعر بأول بيت، ثم عليه أن يواصل كتابة القصيدة».
12- الشجاعة والجسارة: لابد من المجازفة والاستعداد لخوض المخاطر، ومواجهة الإحباط، فالأمور المميزة تتسم عادةً بالغرابة، وكل ما هو مستغرب كثيرًا ما يجد الرفض والاستهجان عند أصحاب العقول التقليدية.
13- الصبر والمثابرة: لم يكن التميز يومًا ما وليد الصدفة أو السرعة أو الإلهام فحسب، بل هو نتاج سنوات عديدة من الصبر والكفاح والعمل الدؤوب، وإجهاد الطاقة، واستفراغ الوسع، لإخراج هذه الباقة البديعة المغلفة بشكل فاتن مما نرى ونسمع، ونلمس ونشم ونستشعر بكل حاسة من حواسنا، تلك الهدايا التي لا تملك أحداقنا إلا أن تتسع إعجابًا بما تحمل في بطنها من معجزات التميز والتفوق والإبداع.
14- إدراك قيمة الوقت: يجب أن نعرف دائمًا وأبدًا أن الزمن يسير إلى الأمام، ولا يتراجع لحظة واحدة إلى الوراء، فكل دقيقة من العمر تمضي تموت ولا تبعث ثانية، ومن يعرف قيمةَ الوقت لا يجلس مكانه وينتظر أن تمطر عليه السماء ذهبًا ولؤلؤًا وياقوتًا، بل يستثمر كل لحظةٍ من عمره وكأنها آخر لحظةٍ من عمره، فيجب أن يغتنمها.

الخلاصة، إن كنا نرغب في التميز فعلنا أن نعمل ونعمل ونعمل وأن نستمر في العمل حتى نصل إلى مبتغانا مهما طال الطريق وشق، فالأمور الرائعة لا تأتي بسهولة، أما الأمور التي تأتي بسهولة فإنها أيضًا تطير بسهولة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق