السبت، 14 فبراير 2015

الرضا عن النفس وعلاقاتي بالآخرين

 

تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :١٥ فبراير ٢٠١٥

بقلم: د. زكريا خنجي

كيف ترضى نفسي عن نفسي؟
في اعتقادي الشخصي أن هذا السؤال يمكن أن يعد من أهم القضايا التي يجب أن نفكر فيها، فمَن منا لا يرغب في رضا النفس والاطمئنان والسكينة؟
قال لي صديق ذات يوم: عندما تقدمت لخطبة زوجتي الحالية، ومن ضمن أسئلتها سألتني سؤالا قالت: هل لديك مشاكل مع الآخرين؟ قلت لها بكل بساطة ومن غير تكلف أو حتى تفكير: ليست لدي مشاكل مع نفسي، لذلك ليست لدي مشاكل مع الآخرين.
وبعد سنوات من زواجي، وفي إحدى تلك المواقف التي تمر على البشر، ذكّرتني بذلك الحديث، فقلت لها: وإن كنت لم أفهم سؤالك في حينه ولكن إجابتي كانت تلقائية، بسيطة، ومن غير تكلف، فأنا فعلاً ليست لدي مشاكل مع الناس لأني متصالح مع نفسي، وهذا لا يعني أنه ليس لدي طموح في الترقي والوصول إلى أهدافي، ولكني في الحقيقة أحترم كل الناس ولا أكره أحد، ولا أحاول أن أصعد على أكتاف البشر.
قالت زوجتي – كما يقول الصديق – هذا الشيء لمسته فيك طوال كل هذه السنوات، فأنت فعلاً متصالح مع نفسك. أ. هـ.
هذا الكلام ذكرني بشخص، كنت أعمل معه فترة من الزمن، هذا الشخص لا يطيق نفسه، ولديه اعتقاد مبطن أنه مظلوم وأن كل العالم يتآمر ضده ويريد أن يدمره، فإن مرت ذبابة أمام رأسه فإنها مبعوثة من قبل قوات أجنبية تريد أن تتجسس عليه، وإن شاهد قطة تمشي أمامه اعتقد أنها مبعوثة لتفجره ببعض المتفجرات، وهكذا هو.

وفي أي حوار يتم بين الموظفين والزملاء والعملاء؛ يكون لديه شعور أن لا أحد يعطيه الفرصة أن يتكلم وأن الكل – من غير استثناء – يضطهده ويسخر منه، وهكذا هو.
لنفكر الآن ولنواجه أنفسنا، من أي الصنفين نحن ؟
وحتى نفهم الفرق بين الصنفين، يمكننا أن نضرب مثالا حول هذا الحادث، لنفترض أن مجموعة من الأفراد أرادوا أن يذهبوا في نزهة معينة، على أن يصلوا إلى المكان المحدد في زمن معين، ولكن تاهوا بعض الشيء ولم يصلوا إلى المكان المطلوب إلا بعد انقضاء الموعد، إلا أنهم عندما وصلوا اكتشفوا أنه لم يفتهم أي شيء، وبعد الانتهاء من النزهة وعودة الأفراد إلى بيوتهم، يأتيهم شخص ثالث ويسأل أحدهم عن النزهة فيقول: «الحمد لله، كانت رائعة، استمتعنا وتقابلنا مع أصدقائنا على الرغم من اننا تهنا بعض الشيء ولكن في النهاية وصلنا ولم يفتنا أي شيء»، أما الشخص الآخر فيقول: «كانت أسوء نزهة في حياتي، تهنا في الطريق ووصلنا متأخرين وضاعت أوقاتنا على لا شيء»، فهل يمكننا الآن أن نعرف من أي الصنفين نحن؟
وبعيدًا عن التعريفات الأكاديمية، فإن الرضا عن النفس حالة شعورية وجدانية، تتملك الإنسان لدرجة أنه يشعر بالشبع من كل شيء، ويجد أن الحياة أعطته كل ما يرغب وما لا يرغب فيه، فهو في نعمة عظيمة ودائمة فإن نقصت النعمة من حوله فهو في رعاية الله وإن زادت النعم من حوله فهي عطايا من الله، وذلك مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم حينما: «وارْضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس»، وتقول العرب: إن الرضا هو سكون القلب إلى قديم اختيار الله للعبد أنه اختار له الأفضل، فيرضي به، ويقولون أيضًا: « ومن فاته حظه من الرضا امتلأ قلبه بضد ذلك، واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه».
ويقال كذلك: «إن للرضا حلاوة تفوق حلاوة وعذوبة دونها كل عذوبة، وله من المذاق النفسي والروحي والقلبي ما يفوق مذاق اللسان، وإن الاضطراب والتفرق والذل والخوف والفوضى كل ذلك مرهونٌ – سلبًا وإيجابًا – بالرضا بالدين».
ولكن ليس المقصود بالرضا – بصورة عامة – أن نركن بالواقع الموجود وأن نقتل طموحاتنا من أجل أن نشعر بالرضا، أبدًا، فمن الرضا عن النفس أن نسعى لتحقيق كل طموحاتنا وأن نجيب عن الأسئلة الكونية المبهمة وأن نبحث وأن ندرس حتى نصل إلى قمة الهمم، وأن نكون في صفوف المتميزين، إلا أن هذا يجب ألا يقودنا أبدًا إلى حالة من الصراع والقتال والقلق والحسد بين بعضنا البعض من أجل العديد من الأمور التي يمكن أن تعد من الأمور الدنيوية التافهة إن شعرنا بالفعل بالرضا.
والرضا النفسي أو الرضا عن النفس هو الشعور الذي يجعل الإنسان ينوء بنفسه عن الكثير من الصراعات التي تجري من حوله، فكم من أشقاء تناحروا من أجل تركة أو ورث وحفنة من مال، وكم من شقيقات تفرقن من أجل صراعات أطفال، والكل يعرف أنه بعد نصف ساعة تعود مياه الأطفال إلى مجاريها ولكن مياه الكبار تنحرف عن مجاريها ويبقى الصراع ينخر في النفوس حتى تصل إلى قيعان مظلمة لا يمكن أن تجد لها الحلول الناجعة، وكأنهم تناسوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان، فيعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهم الذي يبدأ بِالسلام»، ومن هو الذي يبدأ بالصلح؟ هو الأفضل وهو الذي يمتلك قرارا وهو الذي يشعر بالرضا عن نفسه، فمهما كانت الخلافات فإنها ستضمحل مع الزمن، لذلك فمن الأجدى أن نتغلب عليها بإرادتنا وعزمنا وبتصالحنا مع أنفسنا.
قالت لي إحداهن: «كنت على خلاف مع شقيقتي، واستمر الخلاف واستمرت القطيعة عدة سنوات، وكنت خلال كل تلك المدة أشعر بقلق وعدم الرضا عن نفسي وذلك بسبب هذه القطيعة مع شقيقتي، سنوات وأنا أعيش بين كوابيس الخوف والقلق وربما احتقار نفسي، وأسأل نفسي دائمًا «لماذا قاطعت شقيقتي؟ هل لأن ابنها اختلف مع ابني؟ هل هذا سبب كاف حتى أقاطع شقيقتي كل هذه السنوات؟ وكانت دموعي لا تتوقف عندما أخلو إلى نفسي، واستمرت هذه القطيعة حتى في الأعياد والمناسبات لا تلقي إحدانا التحية على الأخرى، كل هذا كان يسبب لي الحزن».
وتواصل: «ولكن في لحظة صفاء مع النفس وتصالح معها قررت أن أذهب إلى منزل شقيقتي وأن أصالحها مهما كانت النتيجة، وفي اليوم المقرر ركبت سيارتي وأنا استعيذ بالله من الشيطان الرجيم وأطلب من الله أن يزودني بالقوة حتى أستطيع أن أصحح هذا الخطأ الذي حدث، كنت خلال الرحلة التي من المفروض ألا تستغرق ربع ساعة أقدّم رِجلاً وأؤخر الأخرى، وفي النهاية وصلت وكأن الزمن قد توقف عند هذه اللحظة، جلست في السيارة وأنا أراقب منزلها وأرى سيارتها مركونة عند باب البيت، وأسأل نفسي: «ماذا أفعل الآن؟ هل أقرع الجرس؟ هل أرجع من حيث أتيت؟ صراع وحرب يجري، ساحته نفسي المضطربة، وجلست للحظات ظننتها سنوات حتى هدأت نفسي، نزلت من السيارة وقفت عند باب المنزل وقبل أن أضع يدي على زر الجرس شعرت أن الباب أنفتح وشاهدت شقيقتي تقف عند عتبة الباب وتأخذني في حضنها، وبكينا، لا أعرف كم وقفنا هناك نبكي ولكن كل الذي شعرت به أني تغلب على الخوف وأني تصالحت مع نفسي حتى شعرت بالرضا التام، وعندها عرفت أن شقيقتي كانت تعاني ما أعاني منه ولكني كنت الأكثر تصالحنا ورضا مع النفس لذلك أقدمت أنا على تنفيذ التصالح» أ. هـ.
يقول ياسر حارب صاحب كتاب (بيكاسو وستاربكس): «لكي تتصالح مع الآخرين عليك أولاً أن تتصالح مع ذاتك، وأن تقبلها بكل عيوبها، بضعفها وبزلاتها من دون أن تحكم عليها، ومن دون أن تصنفها أيضًا... أن تتصالح مع ذاتك يعني أن تقبل الآخر بكل اختلافاته وتناقضاته، ليس لأنك تحبه، ولكن لأنك، ببساطة لا تكرهه». ويضرب بمانديلا مثلاً حيث يقول: «يستغرب البعض كيف استطاع مانديلا أن يعيش في زنزانة ضيقة طوال سبعة وعشرين عامًا، الجواب ببساطة هو أن مانديلا تجاوز نفسه ليتصالح مع الكون كله، ومع الوجود، فاتسع قلبه لكل المعتقدات ولكل الأشكال ولكل الألوان، فأصبح – سعادة – تمشي على الأرض».
الخلاصة: إن كنت تريد أن تتصالح مع الآخرين، عليك أولاً أن تتصالح مع نفسك وتشعر بالرضا عنها، فمن النفس البشرية تنبع كل علاقاتك مع الآخرين، فالشعور بالرضا عن النفس هو شعور لا يعرفه إلا من يعيش مع نفسه في حالة توافق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق