السبت، 13 سبتمبر 2014

الإيجابية في شخصية الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم

 

 تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :١٤ سبتمبر ٢٠١٤

بقلم: د. زكريا خنجي

جُبل المجتمع العربي إبان البعثة النبوية الشريفة على القسوة في التعامل والسلوك، حتى انه كان يعاب على الرجل أن يقبّل ابنه، حتى إن أسماء الرجال كانت تدل على تلك القساوة فمنهم من اسمه صخر أو حرب أو حزن وما إلى ذلك. هذه القسوة قادت إلى حروب وتطاحن نشبت لأسباب ربما كانت تافهة ولكنها – في الحقيقة – نشبت بسبب الولاء والعصبية بين أفراد القبيلة الواحدة، هذا بالإضافة إلى تفشي ظاهرة الرق وإهانة المرأة، وما إلى ذلك.
في تلك الأجواء القاسية، سواء من حيث البيئة الصحراوية أو من حيث الأخلاق والسلوك، يأتي رجل – صلى الله عليه وسلم – يدعو إلى حالة ذهنية جديدة وإلى تغيير في واقع النفس البشرية، وإلى مجتمع تتحول فيه الصورة السلبية إلى صورة إيجابية يتعامل فيه الناس وفق قوله صلى الله عليه وسلم (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، ليس ذلك فحسب إنما نجده صلى الله عليه وسلم لا ينبه أتباعه إلى أن السلوكيات السلبية التي قد يقعون فيها هي في حقيقتها مما ينافي وكمال استحقاقهم للهوية الإيجابية التي ينسبون أنفسهم إليها فحسب وإنما يمزج هذه الهوية الإيجابية بالإيمان بالله واستحقاق رضا سبحانه وتعالى، حيث قال: (والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: ومن يا رسول الله ؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه) أي أضراره.
ثم يذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أعماق أكثر، فهو عليم بالنفس البشرية الميالة إلى حب الامتلاك وفرض الذات حتى وإن كان ذلك بالقوة، فيقوم صلى الله عليه وسلم بترسيخ الهوية الإيجابية في أدنى درجاتها، وذلك بحثه لأتباعه على أن يكف الواحد منهم شرّه عن الناس – وهذا هو السلوك السلبي – إن لم يكن قادرًا على عمل الخير لنفسه أو لغيره، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي الأعمال أفضل؟
قال: الإيمان بالله، والجهاد في سبيله، قال: قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنًا، قال: قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تعين صانعًا أو تصنع لأخرق، قال: قلت: يا رسول الله أرأيت إن ضعفت عن بعض العمل؟ قال: تكف شرك عن الناس فإنها صدقة منك على نفسك.
وفي مكان آخر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت».
قال النووي في شرح الحديث: «أنه إذا أراد أن يتكلم فإن كان ما يتكلم به خيرًا محققًا يثاب عليه واجبًا أو مندوبًا فليتكلم، وإن لم يظهر له أنه خير يثاب عليه فليمسك عن الكلام سواء ظهر له أنه حرام أو مكروه أو مباح».
ومن منطلق مبدأ «فليقل خيرًا أو ليصمت» فإنه صلى الله عليه وسلم ينهى بصورة شديدة عن إحباط الناس وتثبيطهم وقتل روحهم المعنوية، لأن ذلك هو الفعل السلبي الذي يتنافى مع شخصيته صلى الله عليه وسلم التي تربت على العقيدة الإسلامية، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قال الرجل هلك الناس فهو أهلكهم».
قال الخطابي في شرح الحديث: معناه لا يزال الرجل يعيب الناس ويذكر مساوئهم، ويقول فسد الناس، وهلكوا، ونحو ذلك، فإذا فعل ذلك فهو أهلكهم أي أسوأ حالاً منهم بما يلحقه من الإثم في عيبهم والوقيعة فيهم وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه ورؤيته أنه خير منهم.
ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى العالم بنظرته الإيجابية فإنه يرفض أن يتحول أتباعه إلى أناس سلبيين لا ينظرون ولا يتكلمون إلا فيما خبث من القول والفكر، لأن ذلك سيحول حياتهم إلى قيود فكرية وأقفال ذهنية، عندئذ فإنهم لن يروا في عالمهم إلا المشاكل وسوء الظن، والظلم وعدم الإنصاف، وعند ذلك لا أمل ينبثق من أفراد المجتمع ولا فعالية ولا تفاؤل، فتصور أي حياة يمكن أن يعيش فيها إنسان حينئذ!
وفي محاولته لغرس المفاهيم الإيجابية في النفس البشرية أولاً وبالتالي أن تنتشر في المجتمعات جيلا من بعد جيل حاول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطي مدلولات إيجابية حتى لأسماء الأفراد فيصبغها بصبغات إيجابية، فعن سعيد بن المسيب عن أبيه أن أباه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما اسمك؟ قال: «حزن»، قال: أنت «سهل» قال: لا أغيّر اسمًا سمانيه أبي، قال بن المسيب: فمازالت الحزونة فينا بعد. بمعنى أن سعيد بن المسيب يشير إلى الشدة التي بقيت في أخلاقهم.
وجاءت عدة أحاديث قام فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بتغيير الأسماء ذات الدلالات السلبية إلى أسماء ذات دلالات إيجابية، ومن ذلك ما جاء عن عبدالله بن عمر: أن رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم غيّر اسم «عاصية» وقال: أنت جميلة.
ولنترك هذا الجانب، ولنلق الضوء على جانب آخر، وهو التفاؤل الإيجابي في آخر لحظات الدنيا، ومواصلة التنمية حتى ولو كانت القيامة تلوح في الأفق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليفعل.
وهل هناك إيجابية أكثر من ذلك في حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على تعمير الأرض وتشييد الحضارات حتى وإن لم يبق من الدنيا إلا صبابة؟
وحتى وهو – صلى الله عليه وسلم – في قمة حزنه وألمه لم يبتعد عن الإيجابية قيد أنملة، فعن عائشة رضي الله عنها زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثته أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟
قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم عليّ، ثم قال: يا محمد فقال ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئًا».
يقول الدكتور سعيد الرقيب في بحثه (أسس التفكير الإيجابي وتطبيقاته تجاه الذات والمجتمع في ضوء السنة النبوية) «فانظر إلى قمة حسن الظن بالله والتوقع الإيجابي لما سيحصل في المستقبل في قوله: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم»، على الرغم من شدة الهم والوحدة، والغربة الإيمانية، ومطاردًا من أهل الشر، ومن شدة هذا الهمّ فقد مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من ستين كيلومترا ولم يشعر بنفسه فلم يكن همه وكربته من أجل ما وقع له شخصيًا، ولكن لما رفضه الجهال من خير وفلاح لهم في الدارين، ومع كل تلك المعاناة استخدم النبي صلى الله عليه وسلم التوقع الإيجابي ليعلم أمته كيف يفكرون وكيف يفعلون إذا حدث لهم شيء مما قد يكدر صفو حياتهم في أمور دينهم أو دنياهم».
ولم يكتف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الإيجابية وإنما عاشها وعايشها، ليس ذلك فحسب وإنما قد ضرب أروع الأمثلة بإظهار المواقف الإيجابية في كل المواقف السلبية التي تعرض لها، ومن ذلك ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه رداء نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة نظرت إلى صفحة عنق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية الرداء من شدة جبذته، ثم قال: يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك، ثم أمر له بعطاء.
انظر إلى قول الراوي «فضحك»، ردة فعل إيجابية على تصرف سلبي من جاهل، ولم يمنعه ذلك الاعتداء والفظاظة من الأعرابي من إكمال الرد الإيجابي فأمر له بعطاء، قال النووي: فيه احتمال الجاهلين والإعراض عن مقابلتهم ودفع السيئة بالحسنة وإعطاء من يتألف قلبه والعفو عن مرتكب كبيرة لا حد فيها بجهله وإباحة الضحك عند الأمور التي يتعجب منها في العادة وفيه كمال خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلمه وصفحه الجميل.
وليس من السهولة التحدث عن سمات تتمتع بها شخصية عظيمة، فتلك الشخصيات تحمل الكثير من الصفات التي يصعب تقصيها كلها أو حتى جزء منها، فما بالنا ونحن نتحدث عن سيد البشر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أعتقد أننا سنعجز عن ذلك.
وما زال لموضوع الإيجابية بقية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق