الأحد، 17 أغسطس 2014

استنهاض أمة

 

 تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :١٧ أغسطس ٢٠١٤

بقلم: د. زكريا خنجي

يحكى أن رجلاً خرج يومًا ليعمل في الحقل كما كان يفعل كل يوم، ودّع زوجته وأولاده وخرج يحمل فأسه، لكن الرجل الذي اعتاد أن يعود الى بيته مع غروب الشمس لم يعد ذلك اليوم، وعبثًا حاول الناس أن يعثروا عليه إلا أن كل المحاولات باءت بالفشل.
وبعد عشرين عامًا سمعت الزوجة طرقات الباب، فعرفت منها أن زوجها الغائب قد عاد، ففتحت الباب فوجدته شيخًا هرمًا يحمل معوله، وفي عينيه رأت رجلها الذي غاب عنها عقدين من الزمن. دخل الرجل بيته وألقى بجسده المتعب في أول مساحة فراغ في البيت فاستلقى، وجلست زوجته على ركبتيها أمامه، ثم همست في أذنه: أين كنت يا زوجي طوال تلك المدة؟
تنهد الرجل، وسالت دموعه، ثم قال: تذكرين ذلك اليوم الذي خرجت فيه من البيت متوجهًا الى الحقل آخر مرة، في ذلك اليوم رأيت رجلاً واقفًا في الطريق وكأنه يبحث عن شيء أو ينتظر قدوم أحد ما، فلما رآني اقترب مني وطلب أن يهمس في أذني، فطاوعته، فهمس في أذني بهمهمات لم أتبين ما هي وما فهمت منها شيئًا، فقلت له: ماذا قلت يا رجل؟
فضحك ضحكات عالية مخيفة ورأيت الشر يتطاير من عينيه، فقال: هذه تعويذة سحر أسود ألقيت بها في أعماق روحك، وأنت منذ اليوم عبد لي ما بقيت حيًا، وإن خالفت لي أمرًا تخطفتك مردة الجان والشياطين فمزقت جسدك وألقت بروحك في قاع بحر العذاب العظيم حيث تبقى في عذابك ما بقي ملك الجان جالسًا على عرشه.
فتسمرت مكاني من غير حراك، ثم سار بي الرجل إلى بلاد بعيدة، وأنا أخدمه في النهار وأحرسه في الليل، حتى وصلنا إلى البلدة التي جاء منها، فدخلنا بيته الذي كان أشبه بالقبر، ورأيت رجالاً كثيرين مثلي يخدمون الرجل، وكان كل واحد منهم يحمل في رقبته قلادة بها مفتاح، فإذا ما جاء الليل دخل كل منهم سجنه وأغلق القفل بالمفتاح ثم نام، فصرت أفعل مثلما يفعلون، فإذا نام القوم جعلت أنظر إلى المفتاح وأتذكر وجهك وأبكي، ذلك أنه ليس بيني وبينك إلا أن أفتح هذا القفل بالمفتاح الذي بين يدي ثم أرحل إليك، ولكني كنت خائفًا من مجرد التفكير في الموضوع، فكيف المحاولة! ومرت الأيام والشهور وأنا على هذه الحال.
وخلال السنوات الماضية رأيت من ظلم ذلك الرجل ما لم يخطر على بال أحد، فهو لا يعرف الرحمة، ولا يكترث لعذاب البشر، فكم سمعت ممن كانوا يعيشون معي من الرجال يبكون كالأطفال، ويرجونه أن يرفع عنهم ما أوقعه عليهم من السحر، فكان يقول: أقسم أني لا أعرف لهذه التعويذة من خلاص، ولا ينجو أحدكم بروحه إلا إذا مات وهو يخدمني وأنا عنه راض.
وكان دائمًا يتبع ذلك ضحكات مجللة مخيفة.
ومرت السنون وهرم الرجل، فلما اشتدت عليه أمراض الشيخوخة وشارف على الموت، وكنت واقفًا ذات يوم بجانب سريره إذ اني كنت أنا أخدمه وهو في سكرات الموت، فقلت له: يا سيدي، أنت الآن تحتضر، ولا نعلم كيف يكون الخلاص من السحر الذي ابتليتنا به، خلصني من ذلك أرجوك.
فضحك الرجل كعادته، فقال: أيها الأحمق، أنا لا أعرف شيئًا عن السحر، وما تلك الهمهمات والتماتم التي همستها في أذنك ذات يوم إلا كذبة ابتدعتها، لكن نفسك الضعيفة جعلتك عبدًا لي، وخوفك من الموت جعل روحك سجينة في زنزانة أنت تغلقها بيديك، وقد أعطاك الله عقلاً كالمفتاح الذي وضعته في عنقك، ولولا أنك رضيت لنفسك الذلّ والهوان والخنوع لفتحت باب السجن الذي كنت تعذب نفسك به، وكنت أسمع بكاءكم فأعجب من ضعف عقولكم وقلة حيلتكم.
فأسرعت إلى زنزانتي فالتقطت فأسي وعدت إلى الرجل أريد قتله فوجدته قد فارق الحياة، فعدت إلى الزنازين فأخبرت السجناء فهرعوا إلى جسده المسجي فقطعوه وأحرقوه، ثم جئت راكضًا، وها أنذا بين يديك.
هذه القصة الخيالية ذكرتني بوضع أمتنا العربية الإسلامية، فنحن سجنّا أنفسنا ووضعناها في قيد من الخوف والذل، مفتاح خلاصنا بأيدينا إلا أننا نخاف أن نفكر في الخلاص، استعذبنا العبودية والهوان، واستمتعنا بالركون والخنوع، فتكالبت علينا الأمم من كل جانب.
ماذا يمكن أن يحدث لو جلجلنا مفاتيحنا ودرسنا حال أمتنا؟
في عام 1983 صدر تقرير في الولايات المتحدة تحت عنوان (أمة في خطر)، أعدّته لجنة مكونة من 18 عضوًا يمثلون الحكومة والقطاع الخاص والتربويين من كل أرجاء أمريكا.
وكان الدافع الأساسي لإعداد التقرير – كما تشير بعض الدراسات – هو التحذير الذي أطلقه الكثير من المسئولين عن التعليم في الولايات المتحدة من أن النظام التعليمي في أمريكا متخلف في مستواه عن الدول المتقدمة الأخرى، واعتبار أن هذا يمثل خطرًا يهدد مستقبل الأمة الأمريكية. وعلى أساس هذا التقرير، تحددت ثلاثة أهداف كبرى لعمل اللجنة التي أعدت التقرير، وهي:
1- القيام بعملية تقييم موضوعية شاملة من جميع الأوجه للنظام التعليمي في أمريكا في جميع مراحله.
2 - إجراء مقارنة أمينة بين مستوى ودرجة تقدم التعليم في المدارس والجامعات الأمريكية وبين مثيلتها في الدول المتقدمة الأخرى.
3 - اقتراح التوصيات الضرورية الكفيلة بالنهوض بالنظام التعليمي في جميع المجالات ومعالجة أوجه التخلف.
وفي نهاية التقرير تم تقديم 38 توصية لمعالجة أوجه القصور والخلل والنهوض بالتعليم.
ويبقى السؤال، لماذا جيشت أمريكا كل مؤسساتها الحكومية والخاصة لكتابة مثل هذا التقرير الذي يكشف بكل وضوح مواقع الضعف والخلل في الجسد الأمريكي؟
تشير التقارير إلى أنه في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين تزايد القلق الأمريكي من الاتحاد السوفيتي الذي وصل إلى حد الهستيريا، حيث كانت أمريكا في حرب باردة مع الاتحاد السوفيتي، ولقد بات من المتيقن لدى الأمريكيين أن الاتحاد السوفيتي يحيك المؤامرات، ولقد زادت مخاوف الأمريكيين نتيجة تطور السلاح النووي الروسي مما زاد من الاعتقاد أن التفوق الأمريكي بدأ ينهار.
عندئذ أوصت الجمعية القومية لمعلمي العلوم والجمعية الأمريكية لتقدم العلوم بضرورة تعديل مناهج العلوم لكي تساير التطور المذهل في المعرفة العلمية، وبالفعل حدثت بعض التغيرات في المناهج إلا أن هذا التغير كان طفيفًا ولم يكن يخدم الحلم الأمريكي.
في عام 1950 تم إنشاء (المؤسسة القومية للعلوم) التي أخذت على عاتقها مواجهة مشكلة نقص القوى البشرية في العلم والهندسة وتدريب المعلمين لتطوير طرق تدريسهم، وكذلك إعادة النظر في الكتب المدرسية المطبقة التي لم تكن صالحة للتغيرات العلمية والتكنولوجية.
وفي عام 1957 تعرضت مناهج الفيزياء في أمريكا للنقد اللاذع من أساتذة الجامعات بعد إطلاق القمر السوفيتي (سبوتنك) والذي كان بمثابة مؤشر مهم يدل على تفوق العلوم الروسية، فسارعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى علمائها تجمعهم وتحثهم على النظر في تطوير مناهج العلوم والرياضيات وإعادة صياغتها، ولهذا نشطت الجهود في أمريكا في أواخر الخمسينيات للنهوض بمناهج العلوم وظهر أكثر من 53 مشروعا منفصلا لتطوير مناهج العلوم كلفت حوالي 117 مليون دولار.
وعلى الرغم من هذا التطور الهام في مجال التربية العلمية فإن التربويين اكتشفوا في السبعينيات أن مناهج العلوم التي طورت تناسب فئة معينة من الطلبة وهم العلماء والمهندسون، أما السواد الأعظم من الطلاب فلن يكونوا من هذه الفئة، حيث ان المناهج في هذه المرحلة كانت تركز على الجانب الأكاديمي، ولا تأخذ في اعتبارها الجانب الاجتماعي للعلم أو الجوانب الشخصية للمتعلمين.
وخلال هذه الفترة دخلت على الساحة العلمية دولة صغيرة تحطمت بنيتها التحتية ولكنها لم تنهر معنوياتها وهي (اليابان)، وأدى ظهور هذا المارد التكنولوجي الصغير إلى استشعار الغرب للخطر، ليس ذلك فحسب وإنما اتجه إلى ضرورة الاستجابة لهذا التحدي العلمي الجديد.
فاستجابت كل الجهات لهذه النداءات وركز معظمها على موضوع العلم والتكنولوجيا والمجتمع فضلاً عن استخدام الكمبيوتر في المدارس. ولكن استمر الأمر يسير بخطى متثاقلة وذلك بسبب أنها لم تكن منظمة حيث انها كانت فردية حتى عام 1983 حيث صدر تقرير (أمة في خطر)، والذي ساهمت الحكومة في توجيهه ونشره والاعتناء به.
والحديث عن هذا التقرير طويل وتعليقاتنا أطول، وربما سنعاود الحديث عنه مستقبلاً، ولكن قبل أن نختم حديثنًا نود أن نقول: هل نشعر نحن – كأمة عربية إسلامية – بالخطر من جراء تقدم الأمم من حولنا وتخلفنا نحن فنستنهض الهمم ونتوجه إلى القمم؟ هل نصارح أنفسنا – ذات يوم – بأننا متخلفون علميًا واقتصاديًا وسياسيًا وبأننا تبع لأفكار ومذاهب سياسية تتقاذفنا كل تلك التيارات من غير حول لنا ولا قوة؟ هل نتكاشف فنتملك قراراتنا بأنفسنا؟ هل نجلل المفتاح الذي وضعناه في رقابنا ونفتح زنزانة أنفسنا وننطلق إلى المعالي؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق