السبت، 7 يونيو 2014

من أين نستقي أخلاقياتنا الوظيفية ؟

 

 تاريخ النشر في جريدة أخبار الخليج :٨ يونيو ٢٠١٤

بقلم: د. زكريا خنجي

تعرف الأخلاق بأنها منظومة أو مجموعة قيم ومبادئ، على أساسها يعيش الإنسان وتتحرك الشعوب وتتعامل مع بعضها البعض مثل العدل والحرية والمساواة، بحيث تصبح هذه القيم مرجعًا ثقافيًا لتلك الأمم وتكون سندًا تستقي منها القوانين والأنظمة، فالأخلاق من خلال هذه المنظومة تعد جزءا من الوعي الإنساني، هذا الوعي الذي تبنى عليه كل العلاقات الإنسانية والسلوكيات وما إلى ذلك.
وفي المجتمعات الليبرالية والعلمانية والشيوعية وما إلى ذلك، فإن منظومة تلك القيم تختلف حسب الافراد وتغير تلك المجتمعات، فما كان اليوم يعد قيمة فإنه غدًا قد يكون ثقلاً وهاجسًا يجب التخلص منه، والأمثلة كثيرة على ذلك، فالحشمة التي كانت تعاني منها المجتمعات الغربية رمتها خلف ظهرها وسارت حتى غدت فكرة الزواج - مثلاً - فكرة رجعية تثقل كاهل المجتمع، لذلك فإنه تم التخلص منها، وبالتالي أصبح التواصل الجنسي والنفسي بين الطرفين يمكن أن يتم بأي طريقة، حتى إن كانت هذه العلاقة بين الشبيهين.
وهذا يعني بكل بساطة أن مصدر الأخلاق في الحضارات الليبرالية وغيرها من المجتمعات ينبع من العقل والفكر البشري أو ما يتفق عليه الناس في المجتمع - وهو الذي يعرف «بالعرف» - ولذلك فتلك الأخلاق متغيرة من مجتمع لآخر ومن بيئة لأخرى ومن زمن لآخر وربما من بيت لأخر.
أما في الفكر الإسلامي، فإن الأخلاق تأتي من الوحي الإلهي، ولذلك فهي قيم ثابتة ومثل عليا لا تتغير من بلد إلى آخر ومن شخص لآخر، وإنما هي قيم وسلوكيات تصلح لكل إنسان بصرف النظر عن جنسه وزمانه ومكانه ونوعه، ليس ذلك فحسب وإنما مصدر الإلزام في الأخلاق الإسلامية هو شعور الإنسان بمراقبة الله عز وجل له.
وفي الحديث النبوي الشريف الطويل الذي يرويه أبي هريرة رضي الله عنه، عن الرجل الذي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن الإسلام والإيمان وما إلى ذلك، وعندما وصل إلى الإحسان، قال الرجل: «يا رسول الله ما الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه فإنك إن لم تكن تراه فهو يراك». يقول العلامة سعيد حوى في كتابه (تربيتنا الروحية): «فإذا استطاع الإنسان أن يتجاوز هذه المرحلة فيصل عندئذ الإيمان إلى قلبه، فإن هذا الإيمان يزداد ويزداد حتى يصبح شعورًا بصفات الله عز وجل وأفعاله، وعندئذ يصل الإنسان إلى مقام الإحسان الذي عبر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم» في الحديث، ويواصل ويقول «إن مقام الإحسان هذا هو ذروة الإيمان، فإذا تمكن الإيمان في القلب أصبح إحسانًا»، ويقول أيضًا «والإحسان فهي علم وعمل، وهي ملكة قلبية وسلوك، وهي حالة ينسجم فيها العقل مع القلب مع الجوارح، وهي في النهاية هبة الله لمن أسلم وعمل وأحسن».
إذن يمكننا القول بأن الأخلاق في الفكر الإسلامي تصل إلى مرحلة الإحسان، الذي يجب أن لم تستشعر فيه أنك تشاهد الله وتراه في كل حركاتك ومشاعرك، فاعلم أن الله يراقبك، ويشاهد ما تفعله.
وهذا مبدأ نحتاج إليه عندما نتطرق إلى أخلاقيات العمل، لذلك سنعود إليه لاحقًا.
وعندما نقول «أخلاقيات العمل» فإننا نعني: «الوثيقة التي تحدد المعايير الأخلاقية والسلوكية المهنية المطلوب أن يتبعها جميع الأفراد داخل- وربما خارج- المؤسسة التي ينتمون إليها، أيًا كانت تلك المؤسسة، سواء كانت وزارة أو مؤسسة خاصة أو أهلية».
كما تعرف بأنها «المعايير المثالية لمهنة من المهن تتبناها جماعة مهنية أو مؤسسة لتوجيه أعضائها إلى تحمل مسؤولياتهم المهنية».
ونعتقد أن لكل مهنة أخلاقيات وآدابا عامة حددتها القوانين والأنظمة واللوائح الخاصة بها، ونقصد بآداب وأخلاقيات المهنة «مجموعة من القواعد والأصول المتعارف عليها عند أصحاب المهنة الواحدة، بحيث تكون مراعاتها محافظة على المهنة وشرفها». ونؤمن كذلك بأن المسؤولية القانونية تختلف عن المسؤولية الأخلاقية باختلاف أبعادهما؛ فالمسؤولية القانونية تتحدد بتشريعات تكون أمام شخص أو قانون، أما المسؤولية الأخلاقية فهي أوسع وأشمل من دائرة القانون لأنها تتعلق بعلاقة الإنسان بخالقه وبنفسه وبغيره، فهي مسؤولية ذاتية أمام ربه والضمير. ومن ناحية أخرى، فإن دائرة القانون مقصورة على سلوك الإنسان نحو غيره وتتغير حسب القانون المعمول به، وتنفذها سلطة خارجية من قضاة، ورجال أمن ونيابة، وسجون. أما المسؤولية الأخلاقية فهي ثابتة ولا تتغير، وتمارسها قوة ذاتية تتعلق بضمير الإنسان الذي هو سلطته الأولى. وهنا يمكن القول بأن الأخلاق بقوتها الذاتية لا تكون بديلاً عن القانون ولا القانون يكون بديلاً عن الأخلاق، ولكن كلاً من المسؤولية الأخلاقية والمسؤولية القانونية متكاملتان ولا يمكن الفصل بينهما في أي مهنة مهما كانت. أما الميثاق الأخلاقي لأي مهنة فيضم القواعد المرشدة لممارسة مهنة ما للارتقاء بمثالياتها وتدعيم رسالتها، وعلى الرغم من أهميته في تحديد الممارسات والأولويات داخل مهنة معينة فإننا لا يمكن أن نفرضه بالإكراه ولكن بالالتزام، وإن الطريقة الوحيدة للحكم على مهنة معينة هو سلوك أعضاء تلك المهنة إزائها، والحفاظ على قيم الثقة والاحترام والكفاءة والكرامة.
ويحاول العديد من الباحثين أن يربط بين أخلاقيات العمل والفساد الإداري الذي يعتبرونه خللا واضطرابا غير مشروع، مثل انتشار الرشوة والمحسوبية، الاتجار بالوظيفة العامة، الاختلاس من المال العام، الابتزاز الوظيفي، سوء استعمال السلطة، التسيب والاهمال الوظيفي، واللامبالاة في العمل، والتفريط بالمصلحة العامة، وعدم الحفاظ على الممتلكات العامة، وإهدار الوقت، وشيوع النفاق الوظيفي، وعلاقات الريبة والشك وعدم الثقة بين الرؤساء والمرؤوسين، وتصنع العمل أمام الرؤساء، وغياب المسؤولية والالتزام الذاتي، الصراع على القوة، وسوء ممارسة مفهوم الوظيفة العامة.
من جهة أخرى يرى أنصار التفسير الإداري أن أسباب الفساد الإداري تعود بالنتيجة إلى البيئة الإدارية نفسها، فكلما اتسمت البيئة الإدارية بدرجة عالية من الوعي والثقافة والأخلاق، كلما كانت أكثر حصانة ومنعة في مظاهر الفساد الاداري، وكلما اتسمت البيئة الإدارية بضعف الوعي الثقافي الأخلاقي كلما أدى ذلك إلى بروز حالات فساد إداري متمثلة بضعف القيادات الإدارية وعدم نزاهتها وسوء اختيار العاملين وسوء توزيع السلطات والمسؤوليات وعدم وضوح التعليمات، وسوء تقويم أداء الأفراد والمنظمات.
ويمكننا أن نختم بقولنا إن موضوع أخلاقيات العمل غدا من الموضوعات التي تحظى باهتمام متزايد في السنوات الأخيرة نتيجة لأسباب عديدة يقع في مقدمتها تزايد الفضائح الأخلاقية والنقد الموجه للأعمال التي تعتمدها بعيدًا عن إطار أخلاقي واضح وشفاف، لذلك فإن موضوع أخلاقيات العمل أصبح من المواضيع ذات الاهتمام الكبير من قبل الحكومات والجامعات والمنظمات العالمية والمحلية تجسد في شكل إدخال الموضوع كمادة دراسية مستقلة في كل الجامعات العالمية تقريبًا وإنشاء أجهزة مختلفة في الدول لمكافحة الفساد الإداري. ولا نستغرب أن توجد في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها ما يزيد على 500 مقرر دراسي من مقررات أخلاقيات المهنة في الجامعات الأمريكية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق